تعودت بعض المجتمعات في فترة زمنية مضت أن تكرم روادها بعد مغادرتهم الحياة، ظناً منهم أنه نوع من الوفاء، والتقدير لهم ومفاخرة بأعمالهم أمام المجتمع، ومواساة لأهلهم وذويهم، لكن هذا التكريم يزيدهم ألماً وحزناً عليهم، وحسرةً على من غادر ولم يشهدوا تكريمهم بين أحبائهم وأقرانهم.. وفي يقظة جميلة تنبهت الكثير من الجهات المسؤولة والمهتمين بتكريم الرواد إذ تبدل من حال الى حال.. فأصبح اليوم التكريم يشهده أصحابه ويعيشون لحظات الفرح والتباهي، فقد كرمت بعض الجهات سيدة من سيدات المجتمع ضمن مجموعة شخصيات فازت بلقب الأولوية في أحد فروع جائزة (راعية) الأولى من نوعها على مستوى المملكة، وكان قد سبق أن كَرمها نادي مكة الأدبي الثقافي، وهاهي اليوم تُكرم تكريماً يليق بها وبما قدمته للوطن من تضحيات بأبنائها الأبطال الذين نذروا أنفسهم فداءً للوطن.. وهي التي نَمّتْ فيهم هذا الشعور ودليل ذلك عندما ذهب لمنزلهم وزير الداخلية الأمير نايف بن عبدالعزيز يرحمه الله لتقديم مراسم العزاء مواسياً لها في ابنها شهيد الواجب (فيصل علي الرويس)، والذي أُسْتِشهد فداءً في سبيل الذود عن الدين والوطن، حينها قالت كلمتها المشهورة: (لو قدمت أبنائي كلهم شهداء، لكان قليلاً في حق الوطن). منذ طفولتي كنت معجبة بقوة صمود هذه السيدة وشموخ صبرها، حينما كنت أشاهدها تقوم بخدمة أسرتها كأنها إنسانة عادية ولم تتهاون في ذلك مع انها معذورة كل العذر لو قصرت بشيء في حقهم، لإعاقتها البصرية التي أصابتها منذ طفولتها، فكانت ابنتها (فاطمة) زهرتها الوحيدة ذات سبعة أعوام بين تسعة من الأبناء هي العين التي ترى بها؛ والتي اختارها الله إثر حادث حريق. بعد رحيل فاطمة تناول المهمة خلفاً عنها شقيقها البكر فيصل -رحمه الله - فقد كان ظلاً لوالدته في معظم مشاويرها بالحي، فأكملت (أم فيصل) -وهذا اللقب الذي اشتهرت به بين أهل الحي- مسيرتها الشامخة مع أبنائها التسعة والابنة (أميرة) التي عوضها الله بها خلفاً وعوضاً عن ابنتها المتوفاة، وهي اليوم أكاديمية بإحدى جامعات المملكة، أما بقية الأبناء فيعتلون مناصب مهمة في الدولة، سبعة منهم من كبار الضباط تتراوح رتبهم العسكرية من عميد إلى مقدم، كلهم أفنوا أعمارهم في خدمة الوطن الغالي، ولذلك كرمت وهي من تستحق التكريم. أُهيب من منبري هذا بكل من أراد أن يكرم شخصيات مماثلة لها بالبحث والتنقيب الدقيق عنهن وإبرازهن للمجتمع ليكن قدوة للأجيال القادمة، ويخلد التاريخ أسماءهن على مر العصور. إنها الدرة النادرة، السيدة العظيمة عائشة الوقداني.