إن العقل الذي لا يتأمل ويفكر في أوضاع مجتمعه ومشكلاته بنظرة نقدية، ويتحرر من شرنقة المعرفة إلى الإبداع، إنما يتنصل لطبيعته، ويأبى أن يمارس وظيفته؛ لأن من سمات العقل التفرد بقدرته على تجاوز ما هو مألوف وواقع من خلال الفكر النقدي، الذي يتمثل بتساؤل والبحث عن الحقيقة وتقصي عن الأسباب واتباع الأدلة العلمية والقدرة على الاستنباط والتحليل المنطقي لحلول متطلعة الى أوسع الآفاق.. ولأن عملية التفكير تطلب مجهودًا ذهنيًّا فلا يمكن فصلها عن البناء النفسي، لأنهما كيان متحد يعملان سويًّا. ومن مفسدات عملية التفكير وتعطيله الاستبداد والإهمال؛ لأنهما يمارسان قهر قوة الإرادة الغريزية في الإنسان التي وهبها الله له بأن يصيبها الإحباط، فتنتاب الإنسان مشاعر الخوف والقلق والتوتر، فيتشتت ذهنه لأنه يفكر كيف يحمي نفسه من المستبد، والبحث عن الاهتمام يسبب الإهمال، وهنا تصبح العقلية أثيرية وليست فكرية، أي شأنها كشأن الحواس التي يقتصر إدراكها على ما يقع ما يسمى بالاستلاب الفكري، أي أن العقل يصبح خاضعًا لأفكار الآخرين فتتماهى الذات الإنسانية، أي تتمازج وتذوب في الواقع الذي تعيشه. فدائرة الاستبداد والإهمال تنطلق من النظام الأسري، فالأسر التي تنتهج هذين المنهجين يلتقيان في نقطة واحدة وهي الخلل في عملية التواصل، التي من خلالها يتم فهم احتياجات وطريقة تفكير أفرادها لهذا تنشئ أجيالًا مقهورة لا تؤمن بقدراتها العقلية التي وهبها الله لها. والإشكالية الأخرى أن تمتد هذه الدائرة في إحدى المؤسسات التعليمية، التي لا تجيد إلا الاستبداد المعرفي، وإهمال القدرات العقلية للطلاب وتنمية التفكير الإبداعي.. والامتداد الآخر لهذه الدائرة قد يكون في المجال الوظيفي بأن تنظر الإدارة المستبدة للأفراد مجرد أداء يستهلكون من أجل تنفيذ المتطلبات المهنية، وتهمل أفكارهم في التطوير فيصبح انتماء الأفراد للمؤسسة ضعيفًا فتتحول العملية الانتمائية للأشخاص. وإذا انغلقنا في هذه الدائرة كل في دائرته مستبد ومهمل، فإننا نعيق عملية التنمية والنهضة لمجتمعنا، فعلينا أن نتدارك أهمية احتواء الأفراد وتحفيزهم؛ لينعتقوا من قيود الاستلاب الفكري، معلنين وجودهم في تاريخ العلم النافع بإبداعهم الفكري، وتطبيقه على أرض الواقع.