اقول إنه (كلما زادت واتسعت مساحة المقدسات والغيوب ، تضاءل عمل العقل وغابت حرية الإنسان) فلن نكون ، إلا إذا فكرنا بصوت مسموع ، لن نكون إلا إذا اخترقنا حاجز الخوف من التفكير في المضمر والمستتر واللامفكر فيه ، لن نكون جديرين بالامل في حياة افضل ، إلا إذا انتعش تفكيرنا واطلقنا مارد العقل في الدنيا والدين ، فالتفكير لايوهب والحرية لاتوهب والحقوق لاتوهب ، بل كلها تُستحق وتُنال بالعمل بها والسعي لها ، لابد من الحرية للسّير قُدما، وإيجاد المقدرة على التفكير بل حتى مجرّد استلهام الأمل وتحدّي قوى الطبيعة والمجتمع التي تكبّلنا، والتقدّم في مجالات الفكر والعلوم والأخلاق والسياسة وكلّ ما يمتّ إلى الارتقاء بالمرتبة البشرية ، فالحرية مشروع تحرير لأجل عالم متحضّر. وكما يقول عياض بن عاشور الباحث ورجل القانون المتميز في مقالة له (إنّ مشروع الحرية الحديثة هو مشروع متواضع وذو طموح رائع في الآن ذاته. فالمطلوب، في عالم ما انفكّ ينخره الشرّ، أي البؤس، والعنف، وعقلية الهيمنة والسيطرة، والجشع، والأنانية، هو التوصّل إلى إقامة أفضل حرية ممكنة. هذه الحريّة التي عرّفها مونتسكيو أبلغ تعريف عندما قال : «الحريّة هي طمأنينة النّفس النابعة من التصوّر الذي يحمله كلّ فرد على أمنه الخاصّ»...). إذ الحرية منهج حياة يبدأ من البيت ، لا اغلال ولاقيود على التفكير ، التصحيح وليس التقييد ، الحوار وليس الأوامر والنواهي ، اما في المدرسة فللأسف يقوم المعلم بدور المستبد الذي لايسمح إلا ب (ما اريكم إلا ما ارى) لأبنائنا وهم رجال المستقبل فغداً يتبوأون مناصب في إدارة الشأن العام ، ثم نتعجب كيف يكون المدير الكبير والصغير لايحاور أو يشاور موظفيه والعاملين لديه ، هذا اضافة أن مناهجنا للتلقين والترديد لكل شيء انتهى ولم يعد له في حياتنا الحاضرة أية صلة ، في الفقة والتوحيد والتاريخ واللغة ، ناهيك عن الكمية التي تنوء بحملها السيارات فما بالك بجسد غض فتيّ. ليست الحرية كما يشاع هي الفوضى أو الحرية المطلقة أو الفتنة مثل ما ران على بعض الانماط الذهنية، فالحرية هي مفتاح العقل والعدل والإيمان العملي الصادق ، بل هي حراك الشخصية المستقلة مقابل الفرد المُستلب في حياته ، إذ الإيمان الحقيقي بالله يبدأ بالحرية ، والقانون العادل يحكم بالحرية الآمنة لكل الناس ، والثقافة المنتجة تؤسس العقل المتحرر ، والمجتمع الفاضل يربي افراده على التحرر من الخرافات والاساطير التي تؤطر حياتهم ، والدولة العادلة هي التي يكون شعارها الحرية اولاً ، فلا مناص من الحرية إن اراد الإنسان حياة كريمة ، لكن لاننسى أن الحرية لاتوهب ولاتعطى كرماً ومنّة وتفضلاً من احد ، فلابد من استحقاقها والعمل لها ، وأول ذلك الإيمان بها ، ولن نصل لهذا الإيمان إلا إذا فهمنا هذا الرأي الذي يقول (كلما زادت مساحة المقدسات والغيوب والثوابت والقطعيات ، تضاءل عمل العقل وغابت حرية الإنسان وإرادته وتفرده، وانمحت شخصيته) تتسع تلك المساحة في الخطاب التقليدي الممانع لحرية التفكر والفكر ، يزيد عدد المقدسات المكانية والزمانية والرمزية ، الاموات المقدسين ، الاسلاف ، المفتين ، والفقهاء ، السرديات المقدسة ، وتغيب حرية الإنسان ، فالإنسان هو الكائن المقدس وهو الذي يجب أن يكون المحور الرئيس والاهم الذي تدور حوله كل محاور الحياة ، الدين والسياسة والاقتصاد . لهذا عُنيت المنظومات الفلسفية والاديان السماوية والوضعية بهم الإنسان الازلي الاول وهو حريته ، ومالم تنتج ادبياتها ونصوصها وتفسيراتها وشعائرها وكينونة المعنى الكامن في سردياتها ، مالم تنتج مايحرر الإنسان من كل استلاب وتبعية ارضية أو فوقية ، فإنما تزيده آصاراً وقيوداً ، أو لو جعلته مسخراً لها ، فإنما تعجّل باندثارها أو على الاقل المؤمل منها ، فستصبح مجرد استهلاك وقود لعمر الإنسان ، فلقد جاءت من اجله وسُخرت له ، كل النبوات والرسالات والديانات ، فهي التي يجب أن تدور في فلكه وخدمته وليس العكس.