ليست (الجنادرية) مكانًا ولا زمانًا محددين، وإنما مساحات تتسع وتتمدد عبر تضاريس الوطن، وتتواشج مع كل مراحل الزمن. فالتاريخ والثقافة والموروث ثلاثتها تتجلى في (الجنادرية)، ومن خلالها ندرك حقيقة أن كل أمة من الأمم ترى في تراثها وموروثاتها ما يعمر الصدور، ويملأ السطور، ويغذي واقعها بالفخر، ويبقي عليها مدى الدهر. وإذا كنا اليوم نعيش أيام (الجنادرية) فلا بد أن نؤمن أنها هي المحاولة الأبرز في تاريخنا المعاصر، القادرة على مغالبة البلى على ما تبقى من تراثنا الماضي الرميم، وهي الوجهة الأقدر على البحث عن فصول من كتب المجد العريق؛ لأنها تهدف إلى أن تقدم للأجيال مدادًا لحياتها، وسندًا لقوتها، وأساسًا لثقافتها. إن (الجنادرية) قادرة على أن تجوس الماضي، وتعرف ما أبقى لنا منه الزمن، لا سيما في لحظات رخاء العيش، وثورة التقدم، واتجاه الجيل إلى (البلاك بيري وتويتر والفيس بوك). وهي التي تطلعنا على معالم (الجادة) التاريخية، التي قطعها إنسان هذه البلاد في مراحله الأولى، وعدسة بانورامية تكشف كيف نما وتحرك، ولم يجعل للرقاد إليه سبيلًا. (الجنادرية) ليست احتفالية سنوية عابرة في زمن مؤقت، بل رغبة أكيدة في عودة الروح العصامية المكابدة والمعاندة لجور الطبيعة إلى الدنيا، وإحياء للتراث من مرقد الماضي، وربط للجيل بمراحل زمنه، وتراث آبائه وأجداده؛ ليدرك أنه حي، وأنه من سلالة رعيل كافح ونافح، حتى أضحى خليقًا بهذه الأرض.تأتي (الجنادرية) هذا العام على فترة من تموجات العالم، وعبوس الوجوه من حولنا؛ لتبين بجلاء أن بلادنا تعيش طمأنينة السلم، ومدنية العلم، ونعمة الأمن، وجلال الموروث والثقافة. ولكي لا يصبح موروثنا رسمًا محيلًا في نفوس أجيالنا، وأثرًا مشوّهًا في عقول الشعوب من حولنا، ونهبًا مقسمًا يتبناه ويدعيه شذاذ الأفكار والأقزام المتسلقة؛ فإنني أتمنى أن تبقى (الجنادرية)، مع ضرورة أن تكرس ذكرى مولد وانطلاق إنسانية هذه البلاد، وأن على كل من يغشاها أن يتأملها إجلالًا، ويتبناها قيمة، ويدرسها تناولًا وعمقًا وبحثًا. ثم إن (الجنادرية) بإضافتها (ضيف الشرف) السنوي تحاول أن تبني جسور التواصل، وأسباب المعرفة؛ لتزيل الحدود الدارسة بين الإنسان والإنسان لتتلاقى الوجوه، وتتعارف الأجناس، وتتوثق الصلات.