لاشك أن ظهور مصطلح «رجال الدين» في أوروبا حينما كانت تخضع لحكم الكنيسة التي جعلت من نفسها مشرّعًا، واحتكرت الاجتهاد والرأي، وفي فترة من عهد تحكُّمها في الغرب في القرون الوسطى، صنعت بينها وبين العلم عداء، أدى إلى فظائع سجلها التاريخ، وأما منذ ظهور الإسلام وتأسيس دولته الكبرى، والتي كادت أن تشمل العالم المعمور على الكرة الأرضية كلها، فلم يعرف الناس عامة وخاصة هذا المصطلح أبدًا، وإنما عرفوا مصطلحًا آخر وردت به النصوص الشرعية كلها هو «العلماء»، فلا رجل دين في هذا الدين الحنيف ولم يعرف أهله هذا المصطلح، ذلك أن العالِم في الإسلام رجل تخصص في العلوم الدينية أو الشرعية، لينقل علمه إلى الناس ليعرفوا دينهم ويعملوا بأحكامه، فربنا عز وجل يقول: (مَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)، فالعلم الشرعي بتمامه وكل أحكامه ومقاصده وغاياته وقواعده حكم تعلُّمه كله فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، أما ما هو لازم للمسلم ليؤدي حقوق الله ثم حقوق الخلق عليه وفق شريعة الإسلام فهو فرض عين على كل مسلم، يتعلمه ويطبقه في حياته، لا أن يدعي أنه بلا علم يستطيع الاجتهاد فيه، فيبيح لنفسه ما شاء، ويحرم عليها ما شاء، وهذا ما كان من الرعيل من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فكان منهم العلماء الذين يرشدون غيرهم إلى الأحكام، ومنهم من علمه يقتصر على ما كلف به يؤديه بحسب ما وصل إليه علمه من هؤلاء، وعلماء الصحابة رضوان الله عليهم، وهم من عاصروا نزول الوحي واكتمال شريعة الإسلام، علموا أنهم بشر وقد يختلفون، فكان العلماء منهم لا يخطئ بعضهم بعضًا فمصدر ما يعلمون واحد: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإجماع، وأدلة أخرى توصلوا إليها باستيعابهم لنصوص الشرع، فكان الإسلام حينئذ في أنقى صوره كما أُنزل، وتلقاه التابعون عنهم، ثم تابعو التابعين وحتى وصلنا اليوم، فلا أحد يدعي علمًا بشيء هو لم يتعلمه ولم يطلع عليه في مصادره الأصلية، لا كما هو اليوم عندما نجد من الناس من لا يحسن تلاوة آية من كتاب الله، ولا يفهم نصًا من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيدعي أنه يعلم الدين كله، ثم ينكر ما شاء من عقائده وشرائعه، وهم اليوم كثر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، تقرأ لهم وتستمع إليهم عبر القنوات الفضائية وفي المحاضرات وفي المجالس دون حياء من الله ولا من الناس، فترى من ينكر الإسراء والمعراج، وينكر المسجد الأقصى، ويتبرع كل يوم بجهل من هذا النوع لا ينتهي، ونتساءل ما يستفيد هذا الرجل من هذا الهذيان، رده الله إلى دينه ونزع من قلبه شُبه أعداء هذا الدين، الذي أدمن قراءة ما كتبوا وألفوا في كراهية الإسلام والاعتداء عليه، وهذا يدعي أن رجل الدين في النهاية بشر بوعي أو بلا وعي، عينه على الجاه، وعينه الأخرى على المال، ينساق لمصلحته في تحقيق ذاته سواء خدع نفسه أو خدع جماهيره، وطبعًا لو كان يقصد من سموا رجال الدين على عهد حكم الكنيسة في الغرب لعذرناه، فقد قرأنا الكثير مما صنعوا في الغرب من الظلم والعدوان على البشر، ولكن طبعًا لا نظن أنه يعنيهم، فلم يبق إلا أنه يعني علماء الدين، وهي عبارات تعمم على كل عالِم أنه كذلك، وهو خطأ فادح، فلعل من العلماء من ينحرف عن غاية العلم الشرعي فيكون فعله كما ذكر، ونرجو أن يكون مثله القليل النادر، فالعلم الشرعي ليس بمجهول، والرد عليه ممكن بالتفصيل إن حدث ذلك منه فعلًا، أما إذا الأمر لا يعدو إطلاق عبارات على عواهنها، قد تعجب جمهوره، ولكنها لا تمثل الحقيقة، فنرجو أن يتراجع عنها فكم بين علماء الأمة من أخلص لربه فلم ينحرف يمنة أو يسرة عن الذي يعلمه يقينًا، ولا يضيره إن ادعى من لا يملك دليلًا على فعل لم يأته ولم يصدر عنه، فاللهم ارحمنا بفضلك رحمة تغنينا عن رحمة من سواك، واحفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ودنيانا التي هي مزرعة آخرتنا يا رؤوف يا رحيم.