لا أعلم كيف انتشرت تلك الفكرة التي مفادُها: «الإبداع يُولَد من رحِم المُعاناة»! ولا أعلم قائلَها أو مُروّجها في الأساس، ولا أدري حقيقة قصدِها وهدفها، لكنّي أعلم أنها ليست صحيحةً بالضرورة، ولا يُمكن تعميمُها ولا الاعتماد على معناها لحثّ الناس على الإبداع أو تشجيعهم على الإنتاج. لعلّ أحدهم قرأ عن بعض المُبدعين والمفكّرين والعلماء والفلاسفة الذين عاشوا فترةً من حياتهم في معاناةٍ ومُشكلاتٍ شخصية ونفسية واجتماعية، فربَط إبداعاتهم بمعاناتهم، دون النظر إلى عوامل وظروف مُهمّة أخرى تتداخل لتُنتج شخصياتٍ استثنائية مُبدعة، نال بعضُها حظّه من لمَسات الجنون واضطرابات المزاج، وعانت من الفقر والاضطهاد وحتى السّجن. أرى أنّ ربط أحدهم الإنتاج الفكري والإنساني الاستثنائي بضرورة تحمّل شدّة المُعاناة والأذى، قد يكون هدفه إقرارُ أمرٍ واقعٍ سيّئ، وتثبيتُ ظروفٍ اجتماعية واقتصادية غير إنسانية، كتعليمٍ رديء، وظروفٍ صحية غير جيّدة، وتنظيماتٍ إدارية معطوبة، إضافة إلى مُحاولة التملّص من المسؤولية عن تحسينها ومُعالجتها، بحجّة أن تلك الظروف القاسية غير المُبرَّرة هي مصنع الإبداع!!. وهذه الفكرة الزائفةُ ماهي إلا ذرٌّ للرماد في العيون، وتحايلٌ على البسطاء، وتمريرٌ لمصالحَ شخصيةٍ على حسابهم، واستغلالٌ قبيح في تحميلِ الناس ما لا يطيقونه من عذابات. لو كان الأمر كما يظنون، لكان أكثر المُجتمعات إبداعًا ومعرفةً وفكرًا وعلمًا وتقنيةً وإنتاجًا، تلك التي ترزحُ تحت وطأة ظروفٍ اقتصاديةٍ وإنسانيةٍ قاسية، وتعاني من الحصار الفكري وتقييد الحرّيات ودفن الكفاءات!. إنّ قتل بوادر الإبداع الفردي والجماعي في المجتمعات المتخلّفة، هو نتيجة حرصِها على تجهيلِ أفرادها، وقلّةِ اهتمامها بالمتميّزين، وفشلِ مؤسساتها في تبنّي المواهب والعقول الناشئة، وتكريسِ انتشار الفساد الإداري في مفاصلها. فالإبداع الشخصي الحقيقي لا يخرج من رحِم المُعاناة، بل هو ثمَرةُ موهبةٍ فردية، إضافة إلى بيئةٍ اجتماعية، وفُرصٍ عمَلية مُواتية، وأصلُه فكرةٌ ورؤية خاصة، تتبنّاها شخصياتٌ لها رصيدٌ مُعتبَر من المُثابرة والالتزام، وتعتنقها ظروفٌ اجتماعية وبيئاتٌ فكرية حُرّة متفتّحة، فتتطور الموهبة مع الدّعم المناسب إلى إنتاج مُتميّز غير مألوف، لا يكتملُ عقده إلا ببيئة خصبةٍ تساعد على تثبيت جذوره ونموّ فروعِه، وباختصار: وجود الشخص المناسب، في الوقت والمكان المناسبين.