عندما تتغلب حالة اليأس والروح الانهزامية على الإنسان العربي نتيجة الصدمة الحضارية والتقدم التكنولوجي لدول العالم الأول ووصم موطنه بالعالم الثالث، ينعكس ذلك سلبًا على الذات العربية حيث أنها تنظر إلى نفسها بدونية وتحقر علومها وثقافتها وتعظم علم وثقافة الغير وهنا تبدأ الإشكالية فالذات العربية المجروحة التي تعالج جراحها بالانبهار والذوبان وتبعية بعلم وثقافة الآخر يصبح عقلها كالقالب التي تفرغ فيها المادة لتصبح مثالا للشكل المرسوم على القالب، إن عقلية هذه الذات قد سلبت منها وأصبحت خاضعة لأفكار الآخر ناقلة لها ظنًا منها أنها حققت الإنجاز ولكن الإنجاز الحقيقي هو الإبداع والابتكار الذي يتطلب الأصالة الفكرية. فالأصالة الفكرية تنبع من ذات الشخص الذي يتميز بأنه يؤمن بقدراته العقلية التي وهبها الله إليه ومتمكن ذاتيًا ومنفتح على علوم الغير ومعتز بهويته كالعالم والفيلسوف العربي ابن خلدون الذي يعتبر أول من أسس لعلم الاجتماع والذي أصبح مرجعًا عالميًا. يقول ابن خلدون عن الفلسفة اليونانية التي كانت ذات أثر في فكر عدد من فلاسفة المسلمين «فليكن الناظر فيها محترزًا جهده من معاطبها، وليكن من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه، ولا يكبن أحد عليها وهو خلو من علوم المّلّة فقل أن يسلم لذلك من معاطبها». ابن خلدون الذي يدعو إلى تمكين الذات وتحصينها بعلوم الدين التي تمنح الرؤية النقدية لتلك العلوم لم يكن قولا عابرًا منه وإنما تجربة شخصية مر بها فقد تلقى علم التربية الإسلامية ودرس القرآن الكريم وحفظه عن ظهر قلب. لم يقص ابن خلدون علوم الآخر ولم يمجدها لأن الإقصاء يحرم الإنسان العائد من ورائها في فهم الاختلاف والتنوع الفكري والقدرة على التعامل معه واقتناص المعلومات المفيدة وتطويرها، أما تمجيد علم الآخر يفقد النظرة الموضوعية لتلك العلوم والتعامل معها بطريقة مصبوغة بالواقعية والعقلانية. تنوع العلوم عند ابن خلدون منحته التلاقح الفكري الإيجابي فأطلق الأفكار الأصيلة المنطقية والمدروسة فأبدع علميًا فاستحق بجدارة أن يكون عالمًا وصاحب بصمة عظيمة في العلوم الإنسانية.