إن لم... فمن؟!! عنوان كتاب الأمير خالد الفيصل، الذي صدر حديثًا. ومن يقرأ الكتاب لا بدَّ أن يتفهَّم أولئك الذين ألحُّوا على الأمير أن يكتب هذا النص، وأن يشرع في أن ينقل لنا جزءًا ممَّا لديه حول تاريخ وإنسان هذا الوطن. برغم أنَّ خطاب الكتاب سمَّى الأشياء بمسمَّياتها إلاَّ أنَّ المضمرَ أخذ منه أيضًا حيِّزًا لا بأس به. يقرِّر الفيصل رغم حضور «الأنا» أنَّ هذا الكتاب «ليس فيه أنا».. عبارة مربكة تفتح باب التأويل.. ما الذي يقصده الفيصل باستبعاد الأنا الحاضرة؟ هل يقصد أنَّ حضور الأنا ما هو إلاَّ نقطة انطلاق نحو الآخر (الكيان، التاريخ، الرموز، رفقاء الدرب...)؟ أم أنَّها الرغبة في الشراكة مع القارئ، إذ إنَّ الفيصل منذ البداية اعتبر القارئ شريكًا في إنتاج المعنى: «اكتبني لأنَّني منك وأنت منِّي.. وكلانا بأغنية الوطن نغنِّي». كما أنَّ هذا الكتاب ليس مذكراتٍ شخصيَّة، ولم يقصد به سيرة ذاتيَّة: «إنَّها وقفات في مراحل زمنيَّة ونظرات تأمُّليَّة لومضاتٍ ذهنيَّة هزَّتها الصدمات وثبَّتتها الغايات لم أرفض المراحل.. ولم أتمسَّك بالفترات أخذتُ من كل زمان ما قدَّم وتركتُ لكل وقت ما أخَّر عايشتُ أيامي.. وداعبت أحلامي وأخفيتُ آلامي.. أعترفُ أنَّني لستُ من العلماء الجهابذة لكنِّي نبتة هذه الأرض ومواطن هذا الوطن عشقتُ ترابه وعانقتُ سحابه.. وأعترفُ أنَّني لم أخطِّط لمستقبلي ولم أرسمْ طريقي ولم أنتهز الفرص.. آمنتُ بالقدر.. وعايشتُ الحياة واستمتعتُ بالتحدِّي... (...) نجحتُ وأخفقتُ.. تأنيَّتُ واستعجلتُ وأصبتُ وأخطأتُ..» قراءة التجربة والنَّظر إليها نظرة شاملة، تعكس حجم دور ومكانة الأمير خالد الفيصل، منذ بداية الرحلة مع رعاية الشباب، حتَّى آخر التساؤلات حول القدوة التي طرحها في إمارة مكَّة، والتي شكَّلت حالة من التفاعل المجتمعي المدهش. يتوقَّف الفيصل عند التجارب، والإنجازات، والاجتهادات، وعند مكامن الخلل، وأحيانًا يصل به الخطاب إلى دقِّ ناقوس الخطر. مداخل الكتاب متعدِّدة بتعدُّد التجارب وكثافة الرحلة، ولكنَّني سوف أتوقَّف عند أربع صفاتٍ وإنجازات كُبرَى نستطيع أن نستخلصها من مضامين ودلالات هذه الحياة «ذات المعنى»: ظاهرة التفرُّد بالتأسيس، وفهم الإنسان والمكان، يقظة الفيصل والتنبؤ بالأخطار، سيرة الاعتدال، نحو السياسة الحضاريَّة الإسلاميَّة. أولاً: ظاهرة التفرُّد بالتأسيس.. وفهم الإنسان والمكان عرف المجتمع الأمير خالد الفيصل لأكثر من ثلاثة عقود أميرًا لعسير.. ولكن هل اقتصر حضور الأمير على إمارة عسير؟ كان الفيصل -من دون شكٍّ- حاضرًا أيضًا في الرياض، وفي الشمال، والغرب، والشرق.. عرفناه في حائل.. خالطنا شعره.. وصلنا نضاله الذي حذَّرنا منه (الكاسيت) المتعطش للسلطة؛ قبل أن نعي أنَّه تجاوزنا في فكره، وفي قلقه من «الليل والضباب» الذي أراد أنْ يستبدَّ بمجتمعنا، وقبل أن نعي أيضًا ثمن أنْ تركناه وحيدًا.. على طول هذه التجارب التي يسردها باقتضاب، نلاحظ أنَّه منذ رعاية الشباب، إلى يومنا هذا مسكون بفكرة التأسيس للمشروعات الكُبرَى.. في كلِّ مرَّة يؤسِّس ويبني ويتابع، ثمَّ بعد ذلك، في كثير من الأحيان، يتبعه الآخرون.. اللافت أنَّ الفيصل -عبر جميع المسؤوليَّات التي كُلِّف بها- يتكيَّف باقتدارٍ مع طبيعة المسؤوليَّة والإدارة، أو الجهة التي يديرها؛ التركيز على طبيعة المهام والإنتاجيَّة؛ وفقًا لمتطلَّبات الجهة التي يُكلَّف بها المسؤول فن لا يجيده إلاَّ القليل من المسؤولين والقادة، وَلَكَمْ خسرنا بوجودِ مسؤولين من الممكن أن يعمل ويجتهد في كلِّ شيءٍ ما عدا مهمَّته الأساسيَّة. مَن تابع الفيصل، ومَن يقرأ تجربته، يلاحظ التركيز العالي على المهمَّة الأساسيَّة على امتداد تجربته العمليَّة منذ البداية حتَّى يومنا هذا.. وقد يكون هذا السلوك القيادي (النادر في مجتمعاتنا) هو أحد الأسباب التي جعلته يتجاوز الكثيرين في التأسيس لمشروعات وأفكار لا زلنا نتغذَّى منها إلى اليوم. بفريقٍ محدودِ العدد، ولكنَّه كبيرُ العطاء -كما يقول الفيصل- صنع في رعاية الشباب إنجازاتٍ كبيرة: وضع نظامًا للأندية الرياضيَّة، نظَّم أسبوع الإخاء للتبادل والمشاركة بين الشباب العربي، دورة الخليج لكرة القدم.. وفي تصوّري أنَّ أحدَ أهم الإنجازات في تلك المرحلة، إن لم يكن أهمَّها، هو نجاح الفيصل، وفريق عمله في دمج الأندية الرياضيَّة في الثقافة.. شكَّلت خطوة مفصليَّة في دمج المجتمع، بشكلٍ عامٍّ، في الفعل الثقافي والممارسات الثقافيَّة عبر بوابة الرياضة؛ ولنا أن نتخيَّل أنَّ الأندية الرياضيَّة تطوَّرت وفقَ هذا المفهوم، واستمرت في احتواء الشباب، هل كان سيقع الشباب فريسة سهلة لأصحاب مشروعات الكراهية؟ وهذا يقودنا إلى القول إنَّ من أخطر القرارات التي بسببها تولَّد الفراغ الثقافي، هو فصل الأندية الرياضيَّة عن الممارسات الثقافيَّة، التي بدأها الفيصل، وكنَّا نسمع عن دورها في ربط المجتمع بالممارسات الثقافيَّة. لم يفت على الفيصل بأنْ يطرح في هذا الكتاب رؤيته لمفهوم الإمارة، والتي غايتها «تنفيذ أحكام الشرع، واستباب الأمن والاستقرار، وكفالة حقوق المواطن، وبناء الإنسان وتنمية المكان».. اللافت أنَّه تجلَّى في رؤيته لصفات الأمير في الإمارة إلى الحد الذي أدَّى بهِ ألاَّ يخلط بين قيم الاحترام والمحبة، فبالنسبة له يأتي الاحترام كشرط أساس لنجاح الأمير، ولا يجب أنْ نهتم كثيرًا بمستوى درجة المشاعر نحوه [الأمير] لا بدَّ أن يُحترم.. ولا بأسَ أن يُحَب». ولعلَّ من أهم دروس تجربة الفيصل على اختلاف التجارب التي مرَّ بها، اهتمامه في البدايات.. معلوم أنَّ من أصعب ما يواجه الإنسان الذي يريد أن ينجز عملاً أو مشروعًا، هو نقطة البداية، فبمجرد أن تُشيِّد البدايات على منطلقات صحيحة، ومعرفة صلبة، بظروف إنتاج التجربة الاجتماعيَّة والثقافيَّة، المفترض أن تكون نسبة النجاح للتجربة عالية جدًّا. وفي مقام تجربة إمارة منطقة عسير، نلاحظ اهتمام الفيصل منذ اللحظة الأولى بنظرات الرجال، وسكان المنطقة التي قدم إليها، وقد سبق له أن سأل عن طباعهم وسلوكيَّاتهم: «وأول ما لفت نظري في عسير وجوه الرجال ونظراتهم.. أكَّدت لي ما سمعته عن كرمهم وشجاعتهم..». فهم المكان والانطلاق من مكامن قوته اختصرت على ما يبدو على الفيصل الكثير من الجهد والوقت.. وواضح التركيز على مقوِّمات المكان الطبيعيَّة والثقافيَّة. هذه السمة جعلت التنمية في المدينة تتجاوز التشتُّت واتَّجهت، من جهة نحو التركيز، على السياحة في منطقة عسير، باعتبارها صناعة لها نظريَّاتها وأدواتها ومتطلَّباتها، ومن جهة أخرى نحو التركيز على تبني «سياسة ثقافيَّة»؛ ففي ظنِّي أن منطقة عسير تكاد تكون أول منطقة جعلت من تشجيع واحتضان المبدعين والمثقفين سياسة ثقافيَّة بمفهومها الدقيق. والشاهد على ذلك أنَّه في نفس الوقت الذي كانت فيه معظم المناطق الأخرى في المملكة تقبع تحت وطأة تخويف أعداء الثقافة من الثقافة، كانت منطقة عسير مشغولة مع أميرها في أن تتحوَّل إلى مركز إشعاع ثقافي وطني. ثقة الفيصل -كما يشير- بقدرات رجال وشباب منطقة عسير، ووعيه بالأهميَّة الكُبرَى للمكان، كانت من أهمِّ الروافد في أن يجعل منطقة عسير لفترة من الفترات مركزَ المملكة السياحي والثقافي.. أمَّا في إمارة مكَّة المكرَّمة، ودائمًا حول الأهميَّة المركزيَّة للبدايات، يقول الفيصل: «قبل البدء في اجتماعات ورشة العمل (التطوريَّة بعد الوقوف مباشرة على حالة المنطقة) كنتُ أبحث عن نقطة البداية، وشعار المشروع.. وأتساءل: في عسير كانت السياحة!! فما هي في مكَّة؟ وفي يوم مبارك.. كنتُ أصلِّي أمام الكعبة مباشرةً في المسجد الحرام.. ورفعتُ رأسي لأدعو بعد الصلاة.. وإذا بي أجدها أمام عيني: إنَّها الكعبة.. إذن..» عقد الفيصل العزم على أن تكون الكعبة (مكَّة) نقطة المركز، والانطلاق نحو التفكير في المفهوم الملائم الذي يجب أن يخالط جميع الاجتهادات والمبادرات الرامية إلى تطوير المنطقة، وأعلن أنَّه يكمن في (الحركة): «وتجلَّت لي الحركة.. نعم الحركة.. فكلُّ شيءٍ في مكَّة حركة، وخارجها حركة.. والوصول إليها والخروج منها حركة.. والطواف والسعي حركة.. إذن.. لا بدَّ أن تكون الحركة هي العنصر الأساس في مخطط التنمية». رهان الحركة هو اقتحام لأحد أهم أسرار فهم هذا المكان الأبدي. وتصوُّر خريطة التنمية في مكَّة كمجرَّةٍ شمسها مكَّة، واعتبار جدَّة والطائف قمرين، والمحافظات بمثابة نجوم تطوف حولها، يحيلنا إلى تأمُّل ظاهرة الدوران، وطرح الأسئلة التي لا تنتهي حولها، وهل التعمُّق العلمي في فهم هذه الظاهرة سوف يُسهم في فهم إشكاليَّات الحركة بشكل عام؟ موضوع قد لا يخلو من الأهميَّة على الأقل من الناحية الفلسفيَّة، ولمَا لاَ من الناحيَّة العمليَّة؟! في مكان آخر، وفي تجربة أخرى في وزارة التعليم، حمل الفيصل تطلُّعاتنا وأحلامنا. أظهر مباشرة قلق «المسكون بالثقافة»، فكان القرار أنَّ مشروع تطوير التعليم برغم ضخامته وتاريخيته لا يمكن أن يحلِّق إلاَّ بجناح آخر: تطوير المنظومة التعليميَّة من جهة، وبنفس الوتيرة والاهتمام والمتابعة يتمُّ العمل على تطوير ثقافة الأجيال؛ وفقًا لأهداف ومسارات محدَّدة. والكثير منَّا فيما يخصُّ الشق الثقافي، تابع واستبشر بطرح مشروع «ثقافة الجيل» الذي عملت عليه فرق عمل جادَّة ومتعدِّدة شملت الجهات المعنيَّة بأهداف المشروع، كوزارة التعليم العالي، ووزارة الثقافة والإعلام، ولكن كانت خيبة الأمل أيضًا كبيرةً في أنَّ المشروع تشتَّت ولم يرَ النور كما أراد له الفيصل، والنخبة الذين عملوا معه في تحريره وإعداده، أن يكون.. لا أعلم لماذا؟ برغم أهميَّته، لم يطرح كمشروع وطني، سواء بقي الأمير خالد في الوزارة أم لم يبقَ؟ ماذا لو طرح كإحدى الركائز الأساسيَّة التي بُنيت عليها رؤية 2030؟! أمنية كبيرة أن يتمَّ إحياء هذا المشروع بصيغته الكاملة، وأن يطرح للنقاش العام في المؤسَّسات المعنيَّة بالثقافة، وفي المؤتمرات ذات الصلة بالعمل الثقافي.. في كلمة واحدة، في كلِّ مرَّة يعتلي الأمير خالد الفيصل مسؤولية يتفرَّد في التأسيس والإنجاز، ويترك توقيعه على مشروعات كُبرَى بدأها وخطَّط لها من الألف إلى الياء.. ثانيًا: يقظة وتنبؤ الفيصل بالأخطار تبنَّى الأمير خالد الفيصل مواقف تاريخيَّة نحو أفكار شاذَّة، أراد البعض أن يستنبتها وينشرها في مجتمعنا. يشير الفيصل إلى أنَّه واجه تيارين على طرفي نقيض على المستوى الأيديولوجي، ولكنَّهما في نهاية المطاف يلتقيان حول هدف واحد؛ فمن جهة، يذكر أنَّه عندما كان في الرياض واجه «وحيدًا» تيار الحداثة (المتطرِّف) الذي كان يريد أن يتنكَّر لقيمنا ومبادئنا الإسلاميَّة، ولا يكاد ينظر إلى الماضي والحاضر والمستقبل إلاَّ من منظور التجربة الغربية، معتقدًا أنَّها طوق النجاة. أمَّا ما عداه فهو من قبيل «التخلُّف والرجعيَّة». وبعد سنوات من هذه المواجهة، واجه ما كان يُسمَّى ب»الصحوة»، رافضًا ومحتجًّا -قولاً وعملاً- على الذين تنكَّروا لنا، واستغلُّوا حُسنَ ظنِّ وشهامةِ قيادة وشعب هذه البلاد. رفض الفيصل أولاً وقبل غيره خطورة دلالات ومضامين وغايات المسمَّى (المصطلح)، الذي تمَّ الاشتغال عليه أيديولوجيا ليوهمونا، ويتَّهمونا -ظلمًا وعدوانًا- أنَّنا انحرفنا عن مبادئنا الإسلاميَّة، وأنَّهم هم ولا غيرهم من سوف يوقد شعلة الحضارة الإسلاميَّة من جديد. في كلتا الحالتين تنبَّه الفيصل قبل غيره، ودقَّ ناقوس الخطر. حاول واستصرخ المسؤولين والعلماء الراسخين، والمجتمع؛ لكي نقوم بدورنا في مواجهة الأخطار المحدقة بالمجتمع، ولكن غالبًا ما يأتي الركب من الخلف، ونندم أنَّنا لم نساير «إحساس» الفيصل بالخطر. ويأتي تساؤل (حسرة): ماذا لو أنَّنا استمعنا إلى نداءات الفيصل تجاه هذه الأخطار!! هل سنصل إلى ما وصلنا إليه اليوم من توحش، وتطرُّف، واختطاف للدِّين والقيم والمبادئ؟ ثالثًا: سيرة الاعتدال يقول الأمير خالد الفيصل في محاضرته، التي ألقاها في الجامعة الإسلاميَّة بالمدينة المنوَّرة في عام 1433: طرحت مصطلح «منهج الاعتدال السعودي»، فهو منهج لأنَّه ثابت، وهو اعتدال؛ لأنَّ الإسلام قد جاء وسطًا عدلاً بين كلِّ طرفين خارجين عليه: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا»، فهو وسط بين الانجراف في الماديَّة، وبين الاستغراق في الروحانيَّة، وهو وسط بين من ألَّه الأنبياءَ، وبينَ مَن كذَّبهم وقتلهم، وبينَ مَن يسيِّد العقلَ مطلقًا وحده، ومن يعطِّلونه تعلُّقًا بالوهم والخرافة، وهو ينكر الرهبنة، ويستنكر المغالاة حتَّى في العبادة.» ويضيف: «ووصفت الاعتدال بالسعودي، لأنَّ المملكة العربيَّة السعوديَّة (انفردت) على الساحة الإسلاميَّة ببناء دولتها -منذ تأسيسها الأوَّل- على شرع الله وحده، في الكتاب والسُّنَّة». قد تحتاج -في هذا السياق- صفة «السعودي» إلى توضيح أكثر تجنُّبًا للخلط، وسوء الفهم، فهي لا تعني على حسب ما فهمناه من خلال محاضرات ومداخلات الأمير خالد الفيصل أنَّ هناك منهجًا استجدَّ مع تأسيس الدولة السعوديَّة، أو أنَّه ممارسة سياسيَّة محضة، بعيدة عن الدِّين الإسلاميِّ، وإنَّما لا بدَّ للقارئ وللمتلقي، ولكل من أراد أن يتبنَّى ويساند ويتأمَّل هذه التجربة أن يربط بين العلاقة الجبريَّة بين صفة «السعودي»، الذي تبنى وانتصر للقيم الإسلاميَّة، وبين جوهر الرسالة الحضاريَّة الإسلاميَّة. يستند الفيصل في كون الاعتدال منهجًا لهذه الدولة على رسوخ واستمراريَّة هذه البلاد حكومةً وشعبًا على هذا المنهج، ابتداءً بالمؤسس الملك عبدالعزيز -رحمه الله- الذي بمجرَّد أن أحسَّ بخطر رافضي الاعتدال والتحديث لم يتوانَ في إزاحتهم عن المشهد، وعن طريق التنمية وحياة وأمن الوطن والمواطنين؛ واستمرَّت الدولة على هذا النهج في ملاحقة التطرُّف والغلو على اختلاف قياداتها إلى يومنا هذا. من هذا المنطلق ووفقًا لهذه المبادئ، انبرى الفيصل وأفنى جزءًا كبيرًا من عمره يلفت الانتباه، ويكرر أنَّنا لسنا غرباء على هذا النهج، وأنَّه منَّا وفينا، وأنَّنا لسنا بحاجة إلى استيراد نظريَّات، أو أيَّة أفكار من أماكن أخرى، وإنَّما ما علينا إلاَّ أن نصححَ المفاهيم، ونثبت لأنفسنا وللعالم أنَّنا أصحاب رسالة، تقوم على المحبَّة والسلام، وعلى إنسانيَّة الإنسان. نجح الأمير خالد فيما لم ينجح به غيره، أو لنقل قلة مَن مَلَكَ شجاعة وصفة الأمير خالد في تجاوز لعبة الأقنعة.. مَن يتأمَّل سيرته الثقافيَّة والعمليَّة،لا بدَّ أن يلاحظ أنَّه في كل زمان ومكان خالد الفيصل، إنْ تألَّم فضَّل أن يكظم الغيظ، على أن يمارس التلوُّن، وإستراتيجيَّات المرحلة.. ولا شكَّ أنَّنا اليوم نقدِّر ونعي، برغم القناعة الكُبرَى أنَّ أمامنا، وأمام الاعتدال عملاً كبيرًا وشاقًّا جدًّا، أنَّ الأمير خالد بتبنيه ونضاله واشتغاله الدائم بهذا السلوك الحضاري، سوف يتحوَّل -بإذن الله- من مفهوم ومنهج إلى سيرة وطن. رابعًا: السياسة الحضاريَّة الإسلاميَّة من «إن لم... فمن..؟!! حتَّى آخر الكتاب نلاحظ أن خطاب التجربة يدور حول نداء حضاري موجَّه من الفيصل بإلحاح، إلى المجتمع السعودي بجميع مكوِّناته؛ لكي ننهض بالمجتمع، ونسير به نحو سياسة حضاريَّة إسلاميَّة؛ من منطلق أننا، وبما نملك من تاريخ ومقوِّمات حضاريَّة، وأدوات منهجيَّة، قادرون على إزالة الركام عن الجوهرة التي تقبع تحت ركام الجهل والتطرُّف، والمتمثِّلة بالقيم الحضاريَّة الإسلاميَّة. ما يُميِّز هذه الفكرة هو أنَّها تنظر إلى مكوِّنات «السياسة الحضاريَّة» من قيم العدل والمساواة والإخاء من منطلقات قيميَّة إسلاميَّة محضة؛ بمعنى أنَّ هذه القيم الكونيَّة لا تحكمها سوى المعايير الإسلاميَّة، بعيدًا عن حركات فكريَّة أثبتت بما لا يدعُ مجالاً للشكِّ، وعلى لسان منظِّريها، كالاشتراكيَّة وغيرها، أنَّها برغم أنَّها توصَّلت إلى أن تنزع عن هذه المجتمعات ما يصفونه بمعضلة الماورائيَّات، إلاَّ أنَّها أسقطتهم كما يقول مانويل تود «في اللا معنى الرهيب». غاية الفيصل من هذا النداء أن ننهض ببلادنا، وأن نصبح «مجتمعًا راقيًا بأخلاقه.. بإيمانه وصلاحه.. بعلمه وأخلاقه.. بطموحه وأحلامه.. بإرادته وقدراته». وإن أردنا أن «نفعلها»، ونحقق هذه الغايات العظيمة، ونسير نحو مجتمع يقوم على العلم والأخلاق والطموحات الكبيرة، والإرادة العظيمة، يشير إلى بعض المسارات العمليَّة العاجلة التي لا بدَّ منها، والتي من أهمِّها: الاشتغال، من جهة، على نشر وتصحيح مفهوم الإسلام (الحضاري)، الذي يتمركز حول مفاهيم العمل، والأخلاق، والانفتاح من «مواقع الأصالة، و»الاعتدال» كمنهج شامل لجميع مناحي الحياة. ومن جهة أخرى، الالتفاف حول مشروع التحوُّل الوطني الذي تبنته الدولة (2030) على ألاَّ يقتصر على الاقتصاد والمال والتجارة بل يشمل تطوير المثلث الذهبي: الإدارة والتعليم والثقافة. كل المسألة في هذا الكتاب تدور حول قناعة الفيصل الراسخة، وتفاؤله التام أن مجتمعنا برغم تعاظم التحدِّيات ومحاولات الخلط والتعميم والاختزال المتعمَّدة الموجهة نحو مبادئنا، إلاَّ أنَّنا قادرون بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، على القيام بدورنا الحضاري، وأن نسهم على المستوى الكوني في زحزحة الإنسان من كونه أداة، إلى أن يصبح قيمة وغاية بحد ذاته. وإن كان لا بدَّ من خاتمة، يمكن القول إنَّ هذه التجربة الإنسانيَّة الثريَّة التي وضعها الأمير خالد الفيصل بين أيدينا هي بمثابة (فاتحة) أثارت فضولاً لا ينتهي حول تساؤلات أكبر وأكثر، نحتاج أن نطرح حوارًا مجتمعيًّا مع الفيصل حولها.. نريد أن نتعرَّف على إخفاقات وآلام الأمير خالد الفيصل التي ألمح إليها.. حقٌّ للأجيال أن تعرف أكثر عن ثقافة التنبؤ بالأخطار، وعن مركزيَّة السياسة الثقافيَّة في مجتمعنا، وعن ماهيَّة النموذج السياسي الحضاري الذي تحدث عنه.. مؤكّدًا أنَّنا لم ننته مع الأمير، ومع الكتابة.. وأترك هذه التساؤلات التالية (والمستوحاة من الكتاب) مفتوحة: كيف لنا أن نقاوم ونحاصر مَن يكرهون الأسئلة، ويستميتون لفرض الأجوبة؟ لماذا يميل الأمير إلى تغليب فكرة التآمر على مجتمعنا؟ هل الآخر لا يفعل إلاَّ أن يتآمر علينا، أم أنَّ جزءًا كبيرًا من هذا الآخر يتوقع وينتظر منَّا أن ندخل ونشارك في معترك القطيعة الحاصلة بين الروحي والدِّيني، وما آلت إليه هذه القطيعة، ونقدم تجربتنا التي أثبتت نجاحها؟ هل تغيَّر رأي الأمير في موضوع الحداثة؟ ولما قال -في ذلك الوقت- عندما تحدَّث عن هدم ما هو قائم؟ ما هو مفهوم الحرية بالنسبة له؟ كيف يرى حالة ووضع ومستقبل المشاركة المجتمعيَّة في ظلِّ الثوابت التي قامت عليها هذه البلاد؟