مي إلياس زيادة، على الرغم من قوتها الظاهرة وحضورها الطاغي على المشهد الثقافي العربي، إلا أنها تظل امرأة هشة، وفي حاجة ماسة إلى شخص يسندها، ويحميها، ويُوفِّر لها فرصة للمناقشة وتقاسم الأفكار، ويسندها في اللحظات الصعبة، مثلما كان والدها إلياس زيادة الذي كان وراء تشجيعها، وهو من فتح لها صالون الثلاثاء، وجعلها ترأس تحرير جريدته «المحروسة» عندما أصيب بالوهن والتعب. كان كل شيء بالنسبة لها. لهذا يُخطئ الكثير من الباحثين في حب مي زيادة لجبران، وجعلهم له الحب الرومانسي المثالي. لا هي كانت بهذه الرومانسية، ولا هو كان كذلك. كانت لكل منهما حياته الخاصة. جبران حالة استثناء في حياتها، تتلون بحسب الحاجة. تراه أحيانًا في صورة الأب المتابع لها والذي ينصحها في حالات الضرورة، مثلما كان ذلك مع يعقوب صروف قبل أن تفقده ويترك لها فراغًا كبيرًا. كان والدها وأستاذها بعد أبيها. وأحيانًا كانت ترى جبران في صورة الأخ المفقود الذي تجادله في كل ما يشغلها. والحبيب المستحيل، لأنها كانت في دائرة الرجال وكان في دائرة نساء كثيرات. كل الدراسات النقدية العربية تذهب سريعًا نحو جبران لتُسمِّ هذا الحب بالخالد، معتمدة على مراسلاتهما. القراء أيضًا اقتيدوا نحو هذا الطريق الرومانسي الجميل للإسهام في تنشيط أسطورة الحب الشبيهة بميراثنا القديم: قيس وليلى. يمكننا أن نجيب عن هذا ببساطة. أولا لم تكن أمريكا، ولا القاهرة، ولا بيروت صعبة وبعيدة عليها. لا أحد منهما ركض نحو الآخر باسم هذه الرومانسية المتعالية عاطفيًا؟ كل واحد ظل في أرضه وعالمه الذي صنعه، مما يلغي صفة الأسطورية التي كثيرًا ما يغيب فيها العقل ويحل محله جنون تصعب مقاومته. إذا كان الحب قد وصل إلى هذه الدرجة التي يوصفها بعض النقاد وأوصلوها لنا وإلى قرائهم، فلماذا لم يلتقيا ببساطة ويعيشا حبهما؟ قد يبدو هذا الكلام البدهي خارجًا عن المنطق المستقر، وربما ساذجًا، ولكن في الكلام الساذج تكمن أحيانًا بعض الحقائق الحية التي نتخطاها. لم يمنعهما هذا البعد الذي فرضاه على نفسيهما من النوم، وأن يعيش كل منهما علاقاته الخاصة، بعضها مثبت ولو لم يستمر طويلًا مثل حب مي للعقاد الذي بث كل أحلامه في سارة، البديل الافتراضي والأدبي لمي. ولا جبران انعزل في حياته باسم المثالية التي دافع عنها دومًا، في انتظار لقائه مع مي. كان جبران يجد لذة وإشباعًا كبيرًا في النساء اللواتي صنعن جزءًا من حياته من ماري هيسكل إلى ميشلين وغيرهما. جسد أغلبهن في رسوماته أو حتى مراسلاته وكتاباته. نعم كان بينهما إحساس عميق في التواصل الروحي ارتسم واضحًا في المراسلات التي دشنتها مي منذ ليلة 19 مارس 1912 بإعجابها بالكاتب جبران وجهوده تجاه المرأة الشرقية. وميخائيل نعيمة في كتابه عن جبران يوصف ذلك بوضوح. ولو نقرأ الرسائل بإمعان أو ما وصلنا منها، بين جبران ومي، سنكتشف أن اللغة معبرة. المفردات التي تتكرر من الطرفين أختي. أخي. ماري. جبران. وصديقتي. صديقي. وعزيزتي. عزيزي. وكلها مفردات تضع المسافات بينهما. دعته لزيارة أرضه كمن تدعو صديقًا وليس حبيبًا: تعال يا جبران وزرنا في هذه المدينة، فلماذا لا تأتي وأنت فتى هذه البلاد التي تناديك. تعال يا صديقي، تعال فالحياة قصيرة وسهرة على النيل توازي عمرًا حافلًا بالمجد والثروة والحب. وحتى في عمق المراسلات نجد نقاشات أغلبها يتحدث عن قضايا الذات المنشغلة بمحيطها ومآسيه وعن الأدب والكتابة والسماحة. كان جبران صادقًا في علاقته هذه. وكانت مي صادقة أيضًا في بحثها عن صديق يفهمها. عقدة الأخ الميت الناتجة عن وفاة أخيها في وقت مبكر مهمة وتستحق أن يتم تعميقها. أولى جملها في رسالتها الأولى وهي تقدم نفسها لجبران الكاتب الكبير: أنا وحيدة والدي. وهذا ترك في أعماقها فراغًا كبيرًا أذاها بعمق بالخصوص بعد وفاة أبيها وأمها في وقتٍ لاحق. وجدت مي في جبران الأخ المثالي الذي تتمنى أن تقاسمه كل أشواقها وأحزانها. كان مرجعها الثقافي مثلما كان يعقوب صروف قبل وفاته. لكنه كان أيضًا حائطها الذي تتكئ عليه. ومن يقرأ رسائلهما المتبادلة التي تعدَّت العشرين سنة، سيكتشف هذه الملامح مرتسمة في مراسلاتهما بشكل واضح.