أَعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ وَخَيْرُ جَلِيْسٍ في الزَّمانِ كِتابُ قالها أبوالطيِّب المتنبِّي، يوم كان للأدباء والشعراء دورٌ في التَّوجيه والنُّصح. ويوم كانت لغتنا العربيَّة الجميلة لغة العصر، ولمُجيدها -خطابةً، ونثرًا، أو شعرًا- مكانةٌ مرموقةٌ في المجتمع، ويخطبُ ودَّه عِلْيَةُ القوم. وكانت أقوالُهم سائدةً مدى العصور، ما دامت قد قِيلت عن صدق، ونيَّة صالحة. ومع أنَّ المركبات المدنيَّة والعسكريَّة قد حلَّت اليوم محلَّ السروج السابحة، فإنَّ الكِتاب لم يزل خيرَ جليسٍ! في زمنِ فوضى وسائل التَّواصل الاجتماعيِّ، خاصَّةً التي نعيشها هذه الأيَّام، التي سُلبت فيها حرِّيتنا في القراءة؛ بسبب طغيان القنوات المرئيَّة والمسموعة. والعديد منها يأتمر بجهات استخباراتيَّة تعملُ على مسح ما في ذاكرة الشعوب من معلومات مخالفة لرؤيتها، وللعالم الجديد الذي تتطلَّع لفرضه على الجميع. وقياسًا على قول المتنبِّي: «وَخَيْرُ جَلِيْسٍ في الزّمانِ كِتابُ» .. فقد عادت الكتبُ خيرَ ما تُهدى هذه الأيَّام للأهل والأصدقاء! وخيرُ مَن يهديها، ومَن تُهدى إليه مَن عشقوا قراءة سير العظماء. في زيارتي الأخيرة لصاحبِ السموِّ الملكيِّ الأمير الدكتور فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود؛ أمير منطقة المدينة المنوَّرة، دار حديثٌ عن رجال القلم، والسياسة، والحكمة ممَّن استعان بهم الملك المؤسِّس عبدالعزيز -طيَّب الله ثراه- في بناء دولة تحافظ على ثوابت العقيدة، وتساير متطلَّبات العصر. من هؤلاء الأديب اللبناني الأُستاذ فؤاد حمزة (1899-1951)، الذي أعطى من عمره، ومن علمه، وثقافته، ودبلوماسيَّته خمسة وعشرين عامًا داخل المملكة، في خدمة الملك المؤسِّس عبدالعزيز -طيَّب الله ثراه- وهي في أولى سنواتها العديدة المديدة -إن شاء الله- تضعُ أسسَ الدولة الفتيَّة. وكذلك في الخارج، حينما كان يتابع أحداث العالم قبل الحربين العالميتينِ، وخلالهما، وبعدهما، متنقِّلاً بين عواصم الدول صانعة القرار، ومجتمعًا مع قادة التحرُّر من الاستعمار الغربي، في عدد من البلدان العربيَّة، ثمَّ سفيرًا، ووزيرًا مفوَّضًا في تركيَّا وفرنسا لجلالة الملك عبدالعزيز -تغمَّده الله بواسع رحمته-. وقد ترك بعد وفاته مذكَّرات ووثائق خطَّها بيده على دفتر الملاحظات اليوميَّة، مسجِّلاً كلَّ ما أنجزه من عمل واتِّصالات، وما تلقَّاه من الملك المؤسِّس من أوامر، واتّخذ لتنفيذها من إجراءات، وما شاهده، أو نما إلى علمه من أخبار وتصريحات لتُرفع للملك المؤسس -رحمه الله- مع تحليل سياسي مستفيض. ومن ثمَّ، ينقل بخطَّه ما تجمَّع إلى كرَّاسات تنقَّح وتصوَّب. استمرَّ على هذا النحو في توثيق المعلومات إلى أن اختاره الله إلى جواره الكريم. لقد استنبط -رحمه الله- طريقة مبتكرة في كتابة السيرة الذاتيَّة! لا تدخُّل، ولا تنقيح فيها من إعلامي متخصِّص في تجميل الصورة الشخصيَّة لصاحبها. ويكاد مَن يطالعها يجد نفسه أمام شاشة عرض تُقدِّم فيلمًا وثقائيَّا لمرحلة من مراحل بناء المملكة، ولشخصيَّة تركت بصمات عروبتها وإخلاصها ووفائها. وبذلك يُعاد للكتاب رونقه ليعود خيرَ جليسٍ في زمنٍ أضحت السروج مقاعد الأدباء.