قرابة الدم، إذاً، هي الأساس الأيديولوجي الذي ينبني عليه مفهوم القبيلة ويحدد مكانة الفرد ويسير مجمل العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المجتمع القبلي، مما يعطي هذه العلاقات أساسا أخلاقيا وقوة معنوية، بدلا من كونها مجرد إجراءات نفعية أساسها التعاقد الاجتماعي كما هو الحال في المجتمع المدني, الأيديولوجيا القبلية، بما تفترضه من علاقة القربى بين أفراد القبيلة الواحدة، هي التي تغذي روح العصبية فيهم وتمنحهم الثبات والبسالة في الدفاع عن بعضهم البعض, يعتبر أبناء القبيلة أنفسهم إخوة وأبناء عم ملزمين بحكم ما بينهم من علاقة القربى، حقيقية كانت أم تخيلية، بمد يد العون والمساعدة لبعضهم البعض وحماية حقوقهم والدفاع عن مصالحهم المشتركة، وهذا من باب صلة الرحم التي هي أمر طبيعي في البشر، كما يقول ابن خلدون, شعور المرء أنه يقاتل إلى جانب إخوانه وأبناء عمه يهبه الشجاعة والإقدام، لأنه من الواجب على الإنسان أن يبذل جهده في الدفاع عن لحمته، إخوانه وبني عمه, ويعزز من بسالته ثقته بأنهم يبادلونه نفس الشعور وأنهم لن يتخلوا عنه لعدوهم بسهولة, هذه هي العصبية التي يحدثنا عنها ابن خلدون في قوله إن المدافعين لا يصدق دفاعهم وذيادهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسب واحد، لأنهم بذلك تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم، إذ نعرة كل أحد على نسبه وعصبيته أهم، وما جعل الله في قلوب عباده من الشفقة والنعرة على ذوي أرحامهم وقربائهم موجودة في الطبائع البشرية، وبها يكون التعاضد والتناصر، وتعظم رهبة العدو لهم , ويضيف ابن خلدون أن من صلة الرحم النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة لأن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء على من هو منسوب إليه بوجه, وكلما قويت عصبية الجماعة واستبسلوا في الدفاع عن بعضهم البعض كلما هاب الناس جانبهم ويصبح الانتساب لهذه الجماعة مصدر فخر وعزة لأفرادها, وفي الأزمات والحروب التي يلعب فيها الشعر دورا تعبويا وتحريضيا نجد الشاعر الفارس يكرر التأكيد على أنه لولا دعم أبناء عمه، لابته، ربعه، دِنِيّته ، من أبناء القبيلة لما استطاع أن يفعل شيئا لوحده، ويؤكد على القرابة وعلاقة الدم بينه وبينهم ويعزو سر شجاعتهم القتالية إلى نقاء دمهم وعدم وجود دم أجنبي بينهم, إنها شجاعة جماعية والتزام مشترك بين من يعدون أنفسهم نتاج نطفة واحدة وسلالة جد واحد, يقول الشيخ راكان بن حثلين: جينا نقَدّي لابةٍ ما بها اجناب من صلب يامٍ سالمين الوهومِ ياميّةٍ قِدهم على الحرب دِرّاب سقم الحريب اللي لراسه يزومِ ويقول الشيخ دخيل بن قويد: ناخذ على خيل المعادين مشواح لعيون من تزهى العشارق خدوده مع لابةٍ نكسب بهم عز وافراح أولاد زايد سعد من هم عضوده عادات ربعي باللقا كسب الامداح ياسعد من هم بالحرايب جنوده ربعي نهار الهوش يهدون الارواح وقولٍ بلا فعلٍ يفَشّل ردوده ويقول الفارس خلف الأذن يفتخر بشجاعته ويشيد بجماعته من آل مرعض من الشعلان: أجي مع اوّل سربةٍ مِرعضيّة واصير بنحور النشاما لهم حبس قدّام ربعٍ كل ابوهم دِنِيّه ألكد ملاكيدٍ لفارس بني عبس ويؤكد الشيخ محمد بن هادي بن قرمله على أن جنوده من بني عمه وليسوا أجراء ومرتزقة في قوله: لي لابة ما جمّعوا بالعلايف من نسل قحطانٍ وتعزى على هود وفي الحروب التي جرت بين حائلوعنيزة نجد عبيد بن رشيد يفتخر في قصائده التي وجهها إلى أمير عنيزة ابن سليم بأن الرجال الذين يحاربون معه من بني عمه، بحكم أن إمارة الرشيد أساسها قبلي، ويعير ابن سليم بأن جنوده جموع ملفقة من الجزارين والطباخين، على أساس أن إمارة ابن سليم أساسها مدني, ولخضير الصعيليك قصيدة قالها أمام عبدالعزيز بن متعب الرشيد -وكان مجلسه مكتضا بشيوخ قبيلة مطير- يحضه في أبياتها الأخيرة ألا يحالف الأجناب وأن يضع ثقته فقط في شمر لأنهم بِدّه عصب جده : افطَن لشَمّر مِثِل زمل الصخانِ تقضي بهم الحاجه بليّا خساره بِ، دّك عَصَب جدّك عن الامتحان لى من صدقان الاجانيب باره مطير يا منّه بك الفَتق بان كالسلك بالابره غدوا لك سعاره النظام القبلي، بحكم أنه مؤسس مجازا على نظام القرابة، يقود إلى حدة أيديولوجيا النسب عند البدو بينما تخف عند الحضر والفلاحين المستقرين لأن طبيعتهم المستقرة وارتباطهم بالأرض يفرض عليهم تنظيما اجتماعيا وسياسيا يختلف في أساسه عن البدو الرحل, ومن غير المستبعد أن أساس الطبقة الاجتماعية التي لا ينتمي أفرادها إلى قبائل معروفة، التي يطلق عليها العامة في الجزيرة العربية مسمى خضيريه وأسماء أخرى لا داعي لتعدادها، هم من سكان الجزيرة الموغلين في القدم الذين انتقلوا من الأطوار البدائية إلى طور الزراعة مباشرة دون المرور بحياة البداوة التي تتطلب تنظيما قرابيا وانتماء قبليا, تتجلى خصوصية التنظيم السياسي في المجتمع القبلي بمقارنته مع التنظيم السياسي في المجتمع الحضري, الأول أساسه قرابة النسب والانتماء إلى نطفة واحدة، بينما الثاني أساسه قرابة الجوار والانتماء إلى مكان واحد، تربة واحدة, الفرق بين شيخ القبيلة وأمير القرية أو المدينة لا يقتصر على مسمى اللقب (أحدهما شيخ والآخر أمير) وإنما على الأسس الشرعية التي يستمد كل منهما سلطته والآليات المتاحة له لفرض هذه السلطة, يستمد شيخ القبيلة سلطته على أفرادها بحكم القرابة التي تربطه بهم, واللقب شيخ لا يوحي بسلطة استبدادية وإنما زعامة تقليدية يتبرّك بها الناس ويتبعونها طوعا لا كراهية بما وقر في نفوسهم لها من الوقار والتجلّة دون أن توجد وسائل ضغط أو ضبط رسمية لممارسة هذا النوع من السلطة وفرضها على الغير, والشيخ لا يحتاج إلى قوة بوليسية لفرض إرادته لأنه لا يفرضها على أحد بل الناس هم الذين يقصدونه ويتبعونه لحاجتهم إلى رأيه وكرمه وشجاعته وغير ذلك من الخصال التي تميزه عن الكافة, والشيخ لا يمارس القهر على أبناء قبيلته لأنه محتاج إليهم غالبا للعصبية التي بها المدافعة، فكان مضطرا إلى إحسان مِلكَتهم وترك مراغمتهم، لئلا يختل عليه شأن عصبيته فيكون فيها هلاكه وهلاكهم, , أما الأمير فإن لقبه يوحي بأنه الآمر الناهي الذي يفرض أوامره فرضا وغالبا ما يكون تحت إمرته عدد من الأرقاء والأجراء لحمايته وليرهب بهم من يناوئونه ويستعملهم في فرض سلطته لأن حكمه، كما يقول ابن خلدون، يقوم على القهر والسطوة والإخافة.