سيطول الحديث عن مؤتمر الأدباء (الثالث)، الذي اختتم أعماله مساء يوم الأربعاء الماضي بمركز الملك فهد الثقافي ب (الرياض).. ربما (تعقيباً) على توصياته التي أعلنت في ختام جلساته، وربما.. (تعليقاً) على ما جاء في محاوره التسعة: ( الأدب والانتماء الوطني، الأدب وثقافة التسامح، الأدب والمؤسسات الثقافية، الأدب ومناهج التعليم، الأدب ووسائل الإعلام، الأدب السعودي المترجم، الدراسات النقدية، الإبداع الجديد، الإبداع الإليكتروني)، وربما.. (تأييداً) أو معارضة لما قاله المتحدثون في جلساته الصباحية والمسائية الستة عشرة، وربما.. لغير ذلك إذا صدقت مقولة أن دعوة الحضور للمؤتمر قد وجُهت لخمسمائة أديب (!!). وهو رقم مبالغ فيه إذا قسناه بما جاء في (دليل الكاتب السعودي) الذي أصدره المركز الرئيس لجمعية الثقافة والفنون بالرياض عام 1984م.. من أن كتَّاب المملكة (أدباء وغير أدباء) هم مائتان واثنان وتسعون كاتباً. فإن لم يكن مبالغ فيه.. فهو يترجم أو يعكس حالة (التساهل) و(المجانية) التي يعيشها وسطنا الثقافي في عمومه، والأدبي في خصوصه.. في منح (الألقاب) و(الصفات) لمن يستحق ومن لا يستحق. وهو ما سيعني في حالة مؤتمرنا هذا.. أن نصف هؤلاء ال (خمسمائة) - إن لم يكن أكثر - سيتحدثون بما يهم وما لا يهم، وسيكتبون ما يستحق.. وما لا يستحق القراءة عن هذا المؤتمر. فإذا أضفنا إليهم.. هذا (الانفجار القلمي) الذي تعيشه صحافتنا اليومية - قياساً ب (الانفجار الروائي) الذي تحدث عنه الدكتور عبدالعزيز خوجة في كلمته الافتتاحية الرائعة، وهو يرصد المتغيرات التي شهدتها الساحة الأدبية خلال الستة والثلاثين عاماً الفاصلة.. بين مؤتمري الأدباء الأول في مكة والثالث في الرياض - فإن الحديث أو الكتابة عن هذا المؤتمر ستتواصل.. ربما إلى موعد انعقاد مؤتمر الأدباء القادم بعد عامين، الذي ألزمت (الوزارة) نفسها به.. دون طلب من أحد، حتى ليبدو.. كما لو أنها أرادت بهذا الإلزام أن تقول ل(الأدباء) بأنه لا ضرورة - في هذه الحالة - لإنشاء (اتحاد) للأدباء أو (رابطة) لهم.. ففي هذا المؤتمر (البينالي) الذي ستتكفل الوزارة به وبنفقاته - كل عامين - ما يكفيكم ويغنيكم. إنه (إلزام) عطوف كريم مدهش.. إلا أنه لا يخلو من دهاء ومهارة واضعه..!! على أية حال.. كان المؤتمر (ناجحاً) بمقاييس أفضل المؤتمرات المشابهة له وأرقاها: إعداداً وتنظيماً واستقبالاً وحفاوة بضيوف المؤتمر من الأدباء.. الذين قدموا من شمال الوطن وجنوبه، ومن شرقه وغربه.. إلى جانب حضوره من أدباء الرياض ومثقفيه وكوكبة من صحفييه الشباب والكهول، ليتحقق على هامش فعاليات المؤتمر.. ذلك التواصل المفقود، فتجد عواطف الأدباء.. نحو بعضهم البعض فرصتها في التعبير عن نفسها، ونفض غبار أيام الفراق بينهم التي تفرضها عنوة جغرافية البعد.. لا عواطف الوجدان. فقد سعدت فعلاً في تلك الساعات بلقاء الصديق العزيز والروائي العسيري الفنان أحمد أبو دهمان، وب (القاص) الحائلي الشاب فارس الهمزاني.. فكلاهما لم أره منذ أكثر من عامين. لقد كان واضحاً أن لجان المؤتمر الثلاث: (العليا) و(التنفيذية) و(العلمية).. عملت بكل طاقاتها في تحقيق هذا النجاح دون جدال.. إلا أنه فاتها مجتمعة - أو منفردة - اختصار هذا الكم الكبير من (المحاور)، إذ كان يكفي المؤتمر ثلاثة إلى أربعة.. منها بدلاً من هذه (التسعة).. وبما يعطي في النهاية فرصة أوسع لعدد أكبر من المداخلات والتعليقات التي تثري المحور وتغطي جميع جوانبه، كما فاتها - تبعاً لما سبق - التقليل من عدد الأوراق أو الأبحاث التي أُعتمدت لتلك المحاور.. لتبلغ خمسين ورقة أو بحثاً، وهو الأمر الذي أجبر اللجان - بالضرورة - على وضع ست عشرة جلسة صباحية ومسائية في يومين من أيام المؤتمر الثلاث. وهو أمر مرهق حتى ولو كان المتحدثون من وزن طه حسين أو نزار قباني أو الطيب الصالح أو محمود السعدني.. أظرف ظرفاء مصر....!! وإذا كنت قد نجوت من ذلك الإرهاق - على المستوى الشخصي - باختياري الحضور عشية انعقاد المؤتمر.. ومغادرتي في اليوم التالي لافتتاحه مع حرصي على حضور واحدة من جلسات (إيوانه) الليلية التي كانت تقام بفندق (هوليداي إن - الازدهار)، والتي استمتعت فيها ب (رؤى) نخبة من حضورها عن ماهية (أهداف) المؤتمر.. كما تصوروها، أو (توصياته).. كما كانوا يرجونها، والتي ذهبت - بالتأكيد - أدراج الرياح.. لأن جلسة الإيوان كانت تعتمد على (ميكرفون) يناقله منظم الجلسة بين الحضور ولكن دون (تسجيل) لوقائعها. .. إلا أنني استمتعت حقاً ب (حفل الافتتاح) وإن تقدم عن موعده دون إعلان، وب (كلمة) الافتتاح القيمة والراقية التي ألقاها الدكتور عبدالعزيز خوجة - وزير الثقافة والإعلام - والتي داعب فيها ببراعة وأستاذية (أحلام) الأدباء وليس (غرورهم) عندما قال: (فهنيئاً للأدباء والفلاسفة والمفكرين والفنانين أن انتخبتهم أممهم وبلدانهم ليكونوا ضميرها الحي وتراثها الذي تزهو به، وحسبكم أن يلخص شاعرٌ ما.. أمة بكاملها كما فعل المتنبي معنا نحن العرب، وشكسبير مع الإنجليز، وجوتة مع الألمان، وهوجو مع الفرنسيين). لقد كان رائعاً. ولكن أيننا من أولئك الرموز.. وأيننا من تلك (الشموس)..؟ ولكن، وقبيل أن أمضي إلى (ذروة) ما جاء في خطاب الدكتور الخوجة الجميل.. يتوجب عليَّ أن أتوقف عند تلك (الإشكالية) التي نشأت حول (مسمى) المؤتمر عند الإعداد له فيما يبدو، والتي عرض لها بخفة ورشاقة في خطابه، فبعد أن تحدث عن (الأدوات الجديدة في الكتابة الأدبية بسبب النصوص الشبكية التي تسبح في الفضاء مؤسسة لأشكالها الجديدة وبلاغتها المختلفة.. وهي تبشر (أو مبشرة.. كما نصه) بمبدعين جدد لم يعد يهمهم الأدب الرسمي والأشكال الأدبية التي ضمخها التاريخ بعبقه)، و(أن هذا الأدب الجديد.. أوجد قراءه ومنابره بعيداً عن الحرس القديم من مشرفي الصفحات الأدبية في صحفنا ومجلاتنا، وضربت هذه الأشكال الأدبية صفحاً عن كل ما نشأت عليه الأجيال الأدبية).. انتهى. وعلى غير المتوقع - سياقاً - إلى القول ب (إننا نعيش مع الأدباء الرواد نفس الاسم (مؤتمر الأدباء السعوديين) غير أنه ينتمي إلى عصر أدبي جديد)، بينما ارتأى الدكتور السبيِّل في مؤتمره الصحفي الذي سبق افتتاح المؤتمر بيومين.. ب (أن اللجنة المنظمة رأت أن يكون موضوع المؤتمر ذا أفق أوسع من حيث الزمن والفنون والاتجاهات، ولذا أصبح عنوان المؤتمر (الأدب السعودي: قضايا وتيارات)، فإذا كانت هذه (التسمية) تبدو صالحة (أكاديمياً) كما هي (صحفياً)، فإن غياب الاختلاف في الأسباب.. بين الوجهتين.. كان يمكن أن يوحِّد المسمى تحت عنوان واحد، هو (مؤتمر الأدباء السعوديين الثالث: قضايا وتيارات).. فتنفض إشكالية (المسميات) التي يبدو أنها ستلحق بإشكالية (المصطلحات) الدائمة والمعمرة..!! على أن الاختلاف في (مسمى) المؤتمر بين (الطرفين) ومع مقترحين بتعديله إن قُبِل أو رُفِض.. يبقى شكلياً برمته، فلم يحظ بقليل أو كثير من اهتمام الأدباء.. كما حظي خبر إطلاق أربع قنوات فضائية جديدة: الأولى ل (القرآن الكريم)، والثانية ل (السنة النبوية)، والثالثة ل (الاقتصاد)، والرابعة ل (الثقافة)..؟! الذي استهل به معالي الوزير خطابه.. وقوبل بعاصفة من التصفيق تأييداً واستحساناً. ورغم سعادتي الغامرة بإطلاق هذه القنوات التلفزيونية المختلفة، وما يمثله هذا الإطلاق.. من حضور إعلامي، ومواكَبة للأحداث والمستجدات في تخصصاتها.. يليق بالمملكة ومكانتها، وما يتيحه على الجانب الآخر من فرص عمل لشباب الإعلاميين من مذيعين ومصورين ومخرجين ومعدين وموسيقيين ومتخصصين في الإضاءة وهندسة الصوت إلى آخره.. إلا أن قلقاً كان ينتابني ليس بشأن قناتي (القرآن) و(السنة النبوية) و(الاقتصاد)، ولكن بشأن (القناة الثقافية).. والتي لا أدري - حتى لحظة كتابة هذا المقال - إن كان بثها سيكون مختصراً لساعتين أو ثلاث ساعات بداية.. أو ممتداً بامتداد ساعات المساء وإلى منتصف الليل مع أول أيام انطلاقتها..؟ أو من تولى أو سيتولى إعداد خريطة برامجها.. وما هي مفردات هذه البرامج..؟! إن (الثقافة) في مفهومها الخاص والعام.. هي (المسرح)، والسينما والتشكيل والتصوير والنحت والآثار.. وهي النصوص القصصية والروائية، وهي الشعر والموسيقى في أعلى تجلياتها، وهي الغناء في أرقى صوره.. وهي الندوات والحوارات الثقافية حول القضايا الإنسانية المعاصرة، وهي من بعد أخبار وقصص حياة كل هؤلاء المبدعين في مختلف حقولها. فهل ستستطيع قناتنا الثقافية الجديدة أن تقدم كل هذا أو بعضه؟ إنني لا أدري - حقيقة - عن مساحة المسموح لها.. والممنوع عنها، ولكنني أتهيب.. وأتذكر حكاية منع عرض فيلم (مناحي) الكوميدي، وإغلاق مسرح (كلية اليمامة)، وإلغاء (مهرجان السينما) الرابع في جدة، بل وأتذكر على الجانب الآخر - من صورة معاناتنا (المزدوجة) - أن فكرة (البرنامج الثاني) الإذاعية (التي تقوم في مفهومها الإذاعي على تقديم المسلسلات الإذاعية العالمية المترجمة إلى الفصحى: ك (هملت) و(مرتفعات ويزرنغ) و(الإخوة كارمازوف)، والأعمال الموسيقية الكلاسيكية ل (بيتهوفن) و(باخ) و(موزارت)، إلى جانب الندوات العميقة في طرحها.. والجريئة والحرة في تناولها من قِبَل المشاركين فيها الذين عادة ما يكونون من أرباب الفكر وأقطاب والرأي) عندما أرادت أن تجاريها إذاعتنا.. ب (إنشاء) إذاعة (البرنامج الثاني) قبل أكثر من عشرين عاماً في إذاعة جدة، أخذت فعلاً في السنتين أو الثلاث الأول من عمرها تحذو حذو إذاعات (البرنامج الثاني) كما هي صورتها في العالم.. ولكنها سرعان ما تراجعت عن ذلك لتتحول إلى إذاعة برنامج عام (أخرى)!! وإن كانت أقل صرامة وأكثر حرية.. من إذاعة البرنامج العام الرسمية من الرياض، وكان السبب وراء هذا التراجع أو النكوص.. ضعف القدرات البشرية المؤهلَة من جهة، وتواضع التمويل لمثل هذه الإذاعات من الجهة المقابلة.. إلى جانب (الحصار) التقليدي المعروف الذي يضرب حول كل جديد حتى يتم القضاء عليه، وتنطوي صفحته.. (أرجو ألا يفهم من كلامي - أنني أنتقص من قدر إذاعة البرنامج الثاني من جدة الآن، فهي تقوم بدور أساسي مكمل لإذاعة البرنامج العام حتى يشكلان معاً صورتنا الأثيرية المتوازنة.. أمام العالم)، ف (معاناة).. هذه القناة الثقافية الجديدة يمكن التغلب عليها (بشرياً) بابتعاث نخبة منتقاة من الخريجين الموهوبين إعلامياً وفنياً إلى فرنسا وإنجلترا.. في دورات تدريبية تأهيلية لستة أشهر أو أكثر، كما يمكن دعم هذه القناة ثقافياً وأدبياً وفنياً بثلاثة أو خمسة من المثقفين المستنيرين المعروفين بتوجههم الإعلامي عامة، والإذاعي والتلفزيوني خاصة ليكونوا (عقل) هذه القناة و(قلبها).. (روحها) المتفتحة و(وجدانها) الفنان، أما المعاناة.. مع (حرَّاس الممنوعات) فلابد أن نتركها للدكتور الخوجة وصبره عليها وعليهم.. ومقارعته لها ولهم.