ألقى الدكتور محمد بن أحمد بن صالح الصالح، أستاذ الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الخبير بمجمع الفقه الإسلامي الدولي، محاضرة في منزل سفير خادم الحرمين الشريفين بجمهورية مصر العربية الأستاذ هشام محيي الدين ناظر، تناول فيها منهج الدين الإسلامي في الوسطية؛ كون الفكر الإسلامي محصلة حضارية بنيت على أركان العقيدة الإسلامية التي جعلها الله دينه الخاتم وبعث بها إمام المتقين وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. وأقيمت المحاضرة بمشاركة نخبة من الدبلوماسيين والسياسيين ورجال الإعلام، وتناول الدكتور الصالح خلال المحاضرة فكرة الوسطية كمبدأ قرآني تجلى في القرآن الكريم، وأتم بيانه الهدى النبوي. وقال الصالح إن هدفنا الذي نرمي إليه في هذا الجانب من خلال الآتي: أولاً: أن نقنع المسلم بأنه يعتنق أكمل الأديان وأعدلها، وأن مبادئ هذا الدين وأحكامه ومثله وقيمه هي المبادئ السليمة الكفيلة بإسعاد الفرد والمجتمع. ثانياً: أن يقتنع غير المسلم بهذا المعنى نفسه؛ حتى لا يتصور أن الإسلام دعوة عصبية أو قاصرة عما يكفل الحياة السعيدة للناس، وأن يعرف أن ما جاء به الإسلام إنما هو برنامج عمل إصلاحي للبشرية كافة؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (سورة الأنبياء 107)، {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} ( سورة التوبة 128)، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (سورة آل عمران 159)، فهذا الدين ينظر إلى مخالفيه نظرة قوامها البر والوسطية. الوسطية مرتكز لخصائص الأمة ويضيف د. الصالح: حديثنا عن الوسطية في القرآن يشكِّل مرتكز خصائص الأمة الإسلامية؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (سورة البقرة 143)، والأمة الوسط هي التي بلغت الذرى في الشرف والصدق والاعتدال، ومنه قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} (سورة القلم 28)، وأوسطهم هو أصدقهم وأكملهم وأعدلهم؛ فالوسط هو الاعتدال؛ فلا إفراط ولا تفريط؛ فالكرم وسط بين البخل والإسراف، قال تعالى:{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} (سورة الإسراء 29)، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور. وجاء في القرآن الكريم الحديث عن الوسطية في العقيدة، قال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (سورة آل عمران 64). وتبلغ الوسطية الذرى وتحقيق الرعاية حينما قرنت الإساءة إلى اليتيم، والإضرار بالمسكين، ومنع الإرفاق بالتكذيب بالدين، والغفلة عن الصلاة والوقوع في الشرك، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ َوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (سورة الماعون)، وجاء في القرآن الكريم الحديث عن الوسطية في العبادة؛ قال تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} (سورة البقرة 238)، والصلاة الوسطى هي الصلاة الكاملة المستوفية لشروطها وأركانها وواجباتها وسننها. وجاء في القرآن الكريم الحديث عن الوسطية في القيم والسلوك؛ قال تعالى:{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً. وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً. كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} (سورة الاسراء (36-38)، وجاء في القرآن الكريم الحديث عن الوسطية في ضبط التعامل بين الناس في المكاييل والموازين، قال تعالى: {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} (سورة الرحمن 7-9). وجاء في القرآن الكريم الأمر بالتوازن والاعتدال في الإنفاق، قال تعالى في وصف عباد الرحمن {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (سورة الفرقان 67). ودعا القرآن الكريم إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الفعال بتصحيح العقيدة وترسيخها، والترابط الأسري ببر الوالدين والمحافظة على الأولاد، وحسن تربيتهم وتطهير المجتمع من الجرائم والإجرام والعمل على حقن الدماء، ومنع إزهاق الأرواح بغير حق، وبذل الجهد في المحافظة على أموال اليتامى، مع وجوب الوفاء بالمكاييل والموازين، والعمل على تحقيق العدل مع الأباعد والأقارب، والتزام الوفاء بالعهود والعقود والتزام الصراط المستقيم، وهذا ما يعرف بالوصايا العشر الواردة في سورة الأنعام الآيات 151-153 . الوسطية في الدعوة وتأتي الوسطية في الدعوة قال تعالى {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (سورة النحل 125)، وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (سورة يوسف 108)، فالدعوة تقوم على مبدأين: التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة، وهذا ينبني على أصل عظيم عندما بعث المصطفى صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأبي موسي الأشعري رضي الله عنهما إلى اليمن قال: (بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا)، وقال لمعاذ رضي الله عنه (بما تحكم، قال: أحكم بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: فإن لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي ولا ألوا، فضرب النبي على صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله)، وهذا يثبت مدى عناية الشارع الحكيم باعتبار الرأي الصائب مصدراً للتشريع بعدما يبذل هذا المجتهد ما في وسعه من الطاقة في استخلاص الحكم من الكتاب العزيز وما صح من السنة المطهرة، وقال عليه السلام (إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، وإنما بعثني معلما ميسرا). فعمل الرسول عليه الصلاة والسلام على التيسير بالفتوى ليبقى الإنسان في إطار المشروعية الدينية، كما عمل على البشارة في الدعوة؛ لأن البشارة جزء من مدلول الرحمة التي وسعت كل الخلق مؤمنا مقتدياً بمحمد صلى الله عليه وسلم أو مسالما مهادنا، أو مداجيا مخالفا، وسواء كان جماداً أصم أو حيواناً أعجماً، أو نبتاً أخضر وسعتهم هذه الرحمة، ومن صور تبشير الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يدخل في الصلاة يريد إطالة القراءة فيسمع بكاء الصبي فيوجز في القراءة مخافة أن تفتتن أمه، ويطيل السجود وهو يصلي بالناس لأن حفيده الحسين عليه السلام قد ارتحله فيبقى ساجداً حتى يقضي الطفل حاجته وينزل من تلقاء نفسه، ومن سماحته عليه الصلاة والسلام عنايته بالطفولة حتى أنه يتوقف في خطابه لينزل عندما أقبل عليه الحسن والحسين وهو يقول: صدق الله وصدق رسوله (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) ويقبلهما ويحتضنهما ويعود إلى المنبر. التجديد والاجتهاد والوسطية في التجديد والاجتهاد تقوم على ركنين: اعتماد على الأصل، واتصال بالعصر. أما الاعتماد على الأصل فنحن نعتمد على الشرعية التي تقوم على الثوابت الكبرى، وهي حفظ الضروريات الست: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ العرض، وحفظ العقل، وحفظ المال، والمحافظة على قطعيات الشريعة وأحكامها، وعلى الفرائض وعلى القيم الأخلاقية.. وشريعة الإسلام قد اتسعت في كل عصر وزمان عبر آلية الاجتهاد والتجديد؛ ولهذا قال فقهاؤنا في باب الوسطية إن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأعراف؛ فهذا أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا الإمام أبو حنيفة قد خالفا إمامهما في كم هائل من مسائل الفقه، وقالا: لو رأى إمامنا ما رأينا لغيَّر رأيه بناء على ما طرأ من تغير الزمان والمكان وتطور في مسيرة الحياة. وهذا الإمام محمد بن إدريس الشافعي أثر عنه المذهب القديم لما كان في العراق، ولما تحوَّل إلى مصر دون مذهبه الجديد بناء على تغير الأحوال والأعراف. وهذا الإمام أحمد بن حنبل نقل عنه أكثر من رواية في المسألة الواحدة إما لنص علمه أو لمصلحة رآها، وهذا الإمام شيخ الإسلام أحمد بن تيمية أخذ بأصول الإمام أحمد بن حنبل، ومع هذا فله آراء واجتهادات وفتاوى تجاوزت مذهب الإمام أحمد بل ربما تجاوزت المذاهب الأربعة. وإذن فأعمال الاجتهاد والتجديد ضرورة ملحَّة لاستيعاب قضايا العصر ومتطلبات الحياة، من خلال الثبات على مقاصد الشريعة وقواعدها العامة ومبادئها الكلية مع المرونة في الوسائل ودقة الفَهْم وإدراك المصلحة. ويأتي هنا الحديث عن الوسطية في الأحكام؛ فوسطية الأحكام تعظيم الأصول وتيسير الفروع؛ لأن تعظيم الأصول يندرج تحت قوله تعالى: {الم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، (سورة البقرة 1-5)، وهنا تتجلى عظمة الإسلام وكيف أنه دين عالمي لا يكتفي بالإيمان بالقرآن الكريم ولا بالأخذ بهدي المصطفى عليه الصلاة والسلام وإنما يدعو إلى الإيمان بجميع رسل الله وما أُنزل عليهم من الكتب قال تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (سورة البقرة 136)، وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (سورة البقرة 285). ونرى أن الصيغة المثلى في علاج قضايا الأمة وحل مشكلاتها إنما تتحقق بالاجتهاد الجماعي الذي يجمع بين فقهاء الشرع وخبراء العصر؛ لأن الفقهاء يعلمون النصوص ومدلولاتها ومقاصدها، والخبراء يعرفون الواقع ومآلاته وتحدياته، والحكم الشرعي مركب من العلم بالنصوص والعلم بالواقع، فالاجتهاد الجماعي أقرب إلى السداد وأبعد عن الخلاف في مثل هذه القضايا. وإذن فلا بد من الحكمة عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنظر في مجريات الأمور، وما ينشأ عن هذا الأمر من تحقيق المصالح ودفع المفاسد، ولا بد من الموازنة بين الخير والشر، وما يترتب على هذا التصرف من المآل والآثار، فليس كل منكر نراه نحمل عليه سيف التغيير والتبديل إلا بعد ما ننظر إلى ما يترتب عليه من أثر، فإذا كانت المفاسد المترتبة على التغيير أكثر فلا يجوز الإنكار، وإذا كانت المصالح أكبر وأرجح فلا بد من الإنكار؛ فهذا يدركه أهل النظر والوعي وأهل الحكمة وأولي الأمر الذين يقدرون المفاسد ويدركون المصالح. وهذا يتمثل فيما قاله الإمام سفيان الثوري - رحمه الله -: لا بد لمن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر أن يتحقق فيه ثلاث: أن يكون عالماً بما يأمر به، عالماً بما ينهى عنه، عدلاً فيما يأمر به، عدلاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما بأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه. تحقيق السلم والأمن بين الشعوب أما ما يتعلق بالوسطية في التفاعل الحضاري فنحن أمة نعيش ضمن قرية كونية سقطت فيها حواجز الزمان والمكان، وليس لنا من سبيل أن ننكفئ على أنفسنا أو نتقوقع على ذاتنا حيث لا بد من تبادل المنافع ورعاية المصالح، ولا بد لأمة الإسلام أن تمد الجسور مع الآخرين من غير أن تذوب شخصيتنا، مع خصوصية حضارية من غير انطواء، أي أن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنَّى وجدها وممن جاء بها. والحضارات تتقاسم أقداراً من القيم، ولهذا لا بد أن نأخذ بالنافع المفيد من اللباب والجوهر، ونعرض عن القشور وما يتنافى مع أخلاقنا وقيمنا؛ فقد اتصل المسلمون في صدر الإسلام وفي القرون الأولى بالدول المجاورة، وفتحوا نوافذهم على الأمم من حولهم، واستقبلوا الكتب وقاموا بالترجمة، ونشر المسلمون علومهم في شتى المعارف والثقافات حتى وصلوا بهذا عن طريق الأندلس إلى بلاد أوروبا كفرنسا وغيرها، ولهذا حدث التفاعل الإيجابي بين المسلمين وغيرهم من الروم وفارس ومن الأوروبيين وغيرهم. فأمة الإسلام، وهي تعيش في هذا المنتدى البشري الذي نبحث فيه عن شراكة إنسانية، يتجلى فيها التفاعل وحوار الحضارات والأخذ بالجديد المفيد، وتقوم على الأخوة الإنسانية والكرامة الآدمية وعلى التبادل العادل للمصالح وعلى الحق والعدل. وقاعدة التفاعل الحضاري هي رعاية المنافع وتبادل المصالح لتحقيق السلم والأمن بين الشعوب في ظل موازين لا تختل فيها قيم العدالة أو الكيل بمكيالين، وإنما نلتزم العدل، كما قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (سورة الأنعام 152)، وقال تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} (سورة الإسراء 34)، {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (سورة النحل 91)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (سورة المائدة 8)، حيث تتجلى وسطية الإسلام وعدالته بألا تؤثر العداوة والكراهية في الحكم؛ فمهما بلغت عداوتكم لهم أو بلغت عداوتهم لكم لا يكون لهذا أثر في إقامة العدل والإنصاف ومنع الظلم، هذا بشأن من كانت عداوته قائمة مع الآخرين، لا فرق في ذلك بين البعيد والقريب، والقاصي أو الداني؛ قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (سورة الممتحنة 8)، والبر أرقى أنواع الإكرام والاحترام، والقسط قمة العدالة والإنصاف. فهذا جماع أمر الوسطية: وسطية في العقيدة المتفقة مع الفطرة، وسطية الشعائر والمشاعر الدافعة للعمارة والتقدم، وسطية الاجتهاد والتجديد الذي يرتبط بالأصل ويتصل بالعصر، وسطية الأحكام التي تتمسك بالأصول وتعظمها وتقرب الفروع وتيسرها، وسطية الدعوة التي تقوم على التيسير في الفروع والتبشير في الدعوة، وهذه الوسطية التي جسدها بكمالها وتمامها وشمولها وعظمتها نبينا وإمامنا خاتم الأنبياء و المرسلين وسيد العالمين هادي البشرية إلى الرشد وداعي الخلق إلى الحق، ومخرج الناس من الظلمات إلى النور، البشير النذير والسراج المنير، المبعوث رحمة للعالمين صاحب اللواء المعقود، والمقام المحمود والحوض المورود نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي جمع الله له ذرى الكمال البشري الذي لم يتح لأحد سواه، فبعد هذه الوسطية والمثالية والسمو والرقي في المنهج والنظام تأتي أهمية بيان هذا الموضوع في زمن يتعرض فيه الإسلام لهجمة منظمة وشرسة من قبل أعداء الإسلام، ومما زاد الطين بله أن المسلمين أنفسهم مع الأسف في صراعات وخلافات مذهبية؛ فكل باسط يديه يدعي أنه هو صاحب الحق، وكل يرى نفسه المحق وأن الجنة له ولأصحابه، وأن البقية هم وقود النار.