قال الله تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) الكهف:46، وقال حكيم في وصف الأولاد: هم فلذات أكبادنا، وثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، وبهم نصول على كل جليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، يمنحوك ودهم ويحبوك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقلاً ثقيلاً فيملوا حياتك، ويودوا وفاتك، ويكرهوا قربك. فالأولاد من بنين وبنات بعض الحاضر وكل المستقبل، ولقد أسعدني الاجتماع بإعداد كبيرة منهم في المملكة المتحدة صيف هذا العام، ولمست في الكثير منهم الجد والاجتهاد والصدق والإخلاص ، والتفاني في التفوق في دراستهم وأبحاثهم، مع حضور متألق متميز في المؤتمرات واللقاءات العلمية وحصول الكثير منهم على أوسمة وجوائز ووجدت عندهم فهماً لرسالتهم وإدراكا لواجبهم ورغبة صادقة في العودة إلى بلادهم بعد الفراغ من دراساتهم كما أنهم قد استفادوا من الماضي وعاشوا الحاضر واستشرفوا المستقبل بهمة وعزيمة ماضية، مع حب العمل بروح الفريق، كما أنهم على تواصل مع زملائهم من العرب والمسلمين ولا سيما أبناء دول مجلس التعاون، كما إني رأيت من المسلمين احتراماً وتقديراً للمبتعثين من بلادنا، وذلك أن من بين أبنائنا من بذل جهوداً كبيرة وكثيرة من إقامة الدروس في العقيدة والتفسير، وتولى الإمامة في الصلوات الخمس وصلاة الجمعة وصلاة التراويح، واسهم في حل القضايا وعلاج مشكلات المجتمع للمسلمين وغير المسلمين حتى صار يشار إليهم بالبنان، ولا ريب أنهم يشرفون بالانتماء إلى الأراضي المقدسة، إلى مهبط الوحي ومنبع الرسالة حيث أن البيت العتيق يتوجه إليه المسلمون في اليوم خمس مرات ويقصدونه لأداء مناسك الحج والعمرة والزيارة فبلدنا تشرئب إليها الأعناق وترنو إليها الأبصار وهي مهوى الأفئدة، هذه البلد الطاهرة التي تولى المهاجرون والأنصار وسلالاتهم نشر النور والعدل في كل أنحاء الدنيا، فبلدنا بلد التوحيد والوحدة يعتز بها الجميع، ويسعون إلى أن يكونوا نجوماً يهتدى بها. ولهذا التزم أبناؤنا وبناتنا بمبدأ أن وسطية الفكر الإسلامي محصلة حضارية بنيت على أركان العقيدة الإسلامية التي جعلها الله دينه الخاتم وبعث بها إمام المتقين وسيد المرسلين . وأن فكرة الوسطية مبدأ قرآني تجلى في الكتاب العزيز الذي هو قرآن كريم في كتاب مكنون (لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين) الواقعة77-80، ولقد عمل المصطفى على إبراز الوسطية والاعتدال ويسعى الطلاب إلى هدف سامٍ وغاية نبيلة وهي إقناع كل مسلم بأنه يعتنق أكمل الأديان وأعدلها، وأن مبادئ هذا الدين وأحكامه ومثله وقيمه هي المبادئ السليمة الكفيلة بإسعاد الفرد والمجتمع. وأن يقتنع غير المسلم بهذا المعنى نفسه حتى لا يتصور أن الإسلام دعوة عصبية أو قاصرة عما يكفل الحياة السعيدة للناس، وأن يعلم أن ما جاء به الإسلام إنما هو برنامج عمل إصلاحي للبشرية كافة قال تعالى:(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) سورة الأنبياء:107،(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم )التوبة:128، (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) آل عمران: 159،(وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيرا). إن هذا الدين ينظر إلى مخالفيه نظرة قوامها البر والعدل، حيث قال تعالى:(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) سورة الممتحنة8، والبر أرقى أنواع الإكرام والاحترام، والقسط قمة العدالة والإنصاف، وقال تعالى:(يا أيها الذين امنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون)المائدة8. كما أن الكثير من أبنائنا وبناتنا قد أدركوا أن وسطية الإسلام تعنى ما جاء في قوله تعالى: :(وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) سورة البقرة:143، والأمة الوسط هي التي بلغت الذرى في الشرف والصدق والكمال والاعتدال والعدل، كما قال تعالى: (قال أوسطهم الم اقل لكم لولا تسبحون)وأوسطهم هو أصدقهم وأكملهم وأعدلهم، فالوسط هو الاعتدال فلا إفراط ولا تفريط، فالفضيلة وسط بين رذيلتين والكرم وسط بين البخل والإسراف، قال تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا)الإسراء 29، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والثقة بالنفس وسط بين الغرور وضعف الشخصية. فالكثير من أبنائنا وبناتنا بفضل من الله وحسن التربية والتوجيه السليم وما فطروا عليه من طبع سليم وخلق قويم، مع شعورهم بالمسؤولية وكيف أنهم يمثلون دينهم والوجه المشرق لبلادهم وهم يبذلون قصارى جهدهم أن يكونوا على مستوى ثقة خادم الحرمين فيهم، و والذي هيئ لهم فرصاً في التعليم قد لا ينالها غيرهم، ولهذا قد أدركوا عدالة الإسلام في العقيدة المتمثلة في سورتي الإخلاص، وفي قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) آل عمران:64 وقد تمثل في أحبابنا هؤلاء الاعتدال في العبادة وفي التعامل مع الناس مسلمين وغير مسلمين وقد تألق الكثير منهم وترفع عن العنصرية والإقليمية مستمسكاً بقوله تعالى إنما المؤمنين أخوه ) وقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الحجرات:11، ومن هذه المبادئ السامية والمثل العليا ترى فيهم روعة الإيثار وحسن التعفف عن كل ما لا يليق، وقد اخذوا على عاتقهم أيضا الاعتدال في كل جوانب الحياة مع تطبيق صفات عباد الرحمن الواردة في سورة الفرقان من الآية 63 حتىآخر السورة ، مع الالتزام بالوصايا العشر الواردة في سورة الأنعام الآية 151-153، مع استقامة وتمسك بالقيم والمثل العليا وبالوصايا الواردة في سورة الإسراء من الآية 23-39، ولم يكونوا يعتنوا بأنفسهم أو بإخوانهم فقط بل أنهم قد التزموا بالوسطية في الدعوة تطبيقا لقوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) النحل:125 وقوله تعالى:(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)يوسف 108، كما ظهر لي في الكثير منهم أنهم يترسمون خطى المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويأخذون بتوجيهاته عليه السلام عندما بعث معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن قال : (بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا) وقال عليه السلام (إنما بعثت معلماً ومبشرا ولم ابعث معنتا ولا متعنتاً)وأملي أن يتحقق في أبنائنا وبناتنا قول الله تبارك وتعالى:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الأعراف 157. وإذا كان هؤلاء الأبناء والبنات قد سلكوا مسلكاً حميداً وطريقاً رشيداً في الكثير من جوانب الحياة، فإن لهم اثراً بالغ ودوراً رائداً في التعامل مع غير المسلمين حيث أدركوا أننا أمة نعيش ضمن قرية كونية سقطت فيها حواجز الزمان والمكان، وليس لنا من سبيل أن ننكفئ على أنفسنا أو نتقوقع على ذاتنا حيث لابد من تبادل المنافع ورعاية المصالح ولابد لأمة الإسلام أن تمد الجسور مع الآخرين من غير أن تذوب شخصيتنا، وخصوصيتنا الحضارية من غير انطواء أي أن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها وممن جاء بها. والحضارات تتقاسم أقدار من القيم، ولهذا لا بد أن نأخذ بالنافع المفيد من اللباب والجوهر، ونعرض عن القشور وما يتنافى مع أخلاقنا وقيمنا فقد اتصل المسلمون في صدر الإسلام وفي القرون الأولى بالدول المجاورة وفتحوا نوافذهم على الأمم من حولهم واستقبلوا الكتب وقاموا بالترجمة ونشر المسلمون علومهم في شتى المعارف والثقافات حتى وصلوا بهذا عن طريق الأندلس إلى بلاد أوروبا، ولهذا حدث التفاعل الايجابي بين المسلمين والأمم من الروم وفارس ومن الأوربيين. فأمة الإسلام وهي تعيش في هذا المنتدى البشري الذي نبحث فيه عن شراكة إنسانية يتجلى فيها التفاعل وحوار الحضارات والأخذ بالجديد المفيد الذي يقوم على الأخوة الإنسانية والكرامة الآدمية وعلى التبادل العادل للمصالح وعلى الحق والعدل، ولقد قال الخليفة الراشد علي رضي الله عنه لواليه على مصر (الناس صنفان إما أخ لك في الإسلام وإما نظير لك في الخلق أخوك في الإنسانية يفرط منه الخطأ والزلل وتغلب عليهم العلل ويؤتي على أيديهم من العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثلما تحب أن يعطيك الله من العفو والصفح فإنك فوقهم وولي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاك) إذن فهذه قاعدة التفاعل الحضاري نرعى المنافع ونتبادل المصالح لتحقيق السلم والأمن بين الشعوب في ظل موازين لا تختل فيها قيم العدالة أو الكيل بمكيالين وإنما نلتزم العدل، كما قال تعالى:(وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون) سورة الأنعام: 152 ، وقال تعالى:(وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا) الإسراء:34،(وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون)النحل 91،(يا أيها الذين امنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى) سورة المائدة 8، حيث تتجلى عدالة الإسلام بالا تؤثر العداوة والكراهية في الحكم فمهما بلغت عداوتكم لهم، أو بلغت عداوتهم لكم لا يكون لهذا اثر في إقامة العدل والإنصاف ومنع الظلم، هذا بشأن من كانت عداوته قائمة مع الآخرين لا فرق في ذلك بين البعيد والقريب، والقاصي أو الداني فهذا جماع أمر العدالة : وسطية في العقيدة المتفقة مع الفطرة، وسطية الشعائر والمشاعر الدافعة للعمارة والتقدم، وسطية الاجتهاد والتجديد الذي يرتبط بالأصل ويتصل العصر، وسطية الأحكام التي تتمسك بالأصول وتعظمها وتقرب الفروع وتيسرها، وسطية الدعوة التي تقوم على التيسير في الفروع والتبشير في الدعوة، وهذه الوسطية التي جسدها بكمالها وتمامها وشمولها وعظمتها نبينا إمام المتقين وخاتم النبيين وسيد المرسلين معلم الناس الخير وهادي البشرية إلى الرشد وداعي الخلق إلى الحق، ومخرج الناس من الظلمات إلى النور، البشير النذير والسراج المنير، المبعوث رحمة للعالمين صاحب اللواء المعقود، والمقام المحمود والحوض المورود نبينا محمد الذي جمع الله له ذرى الكمال البشري الذي لم يتح لأحد سواه. فبعد هذا الوسطية والمثالية والسمو والرقي في المنهج والتعامل يأتي أهمية إبراز دور أبناءنا وبناتنا في التعامل مع الغير بمودة ورحمة، وتواضع مع سمت حسن وخلق رفيع وفي الختام أرجو لأحبائنا مزيداً من التوفيق ومزيداً من الترابط والتعاون، وبذل الجهد في توجيه وهداية من تسول له نفسه الميل عن الطريق السوي، قال تعالى: (اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ) وقال تعالى: (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) سورة الملك 22، وقال تعالى (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا )سورة النساء:69 ومرة أخرى تحية لأولادنا من بنين وبنات في مواقعهم ومجالات تلقي علومهم، حفظهم الله من كل سوء وبارك جهودهم وجهادهم. * أستاذ الدراسات العليا بالجامعات السعودية ومعاهدها العليا وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر والخبير بمجمع الفقه الإسلامي الدولي