العشر الأواخر من رمضان تتسم بطابع خاص، ففيها زاد الراغب للمزيد من الخير، وموسم لمحو السيئات وزيادة الحسنات، ومتاع لمن أراد التمتع بالتقرب من البارئ، واستمتاع لمن يتلذذ بقراءة القرآن وتدبره، وفرصة لمن ملأ قلبه الإيمان أن يزيد من إيمانه، وأن يجدد يقينه، وهي سماء المتفكرين، وفضاء التائبين الآيبين، وروضة المجتهدين في الصلاة والدعاء والتقرب إلى علام الغيوم. والتفكر صفة من صفات المعتبرين، ومسلك للمتعلقين بالحق والمتلمسين، وطريق لزيادة إيمان المتثبتين، التفكر في خلق الله بشراً كان أم حجراً أو شجراً، وتفكر في تدبير الخالق للكون، وتسييره المخلوقات في نسق عجيب لا يدركه غير الأريب، دقة متناهية في خلق الإنسان، وفي نمط تفكيره، وأسلوب حياته وخصاله الحميدة والذميمة، تفكر في معيشته وانتفاعه بما لديه من منافع، وتفكر في سلوك الحيوان وقدرته على التأقلم والتحور لملاءمة البيئة، وتفكر في هدايته إلى ذلك النهج الذي يسلكه للحفاظ على جنسه، تفكر في المملكة النباتية وتعاملها مع البيئة وانتفاعها بما يسقط عليها من أشعة الشمس أو ما تحويه الأرض من ماء وعناصر غذائية من نيتروجين وكالسيوم وبوتاسيوم وعناصر دقيقة وغيرها، وأيضاً تلك الدورة للكربون حتى يتمكن الإنسان والحيوان والنبات وسائر المخلوقات من عمارة الأرض في تناسق بديع أوجده وسيره رب العزة والجلال. كما يجدر بذوي الألباب التفكر في السماء والنجوم والمجرات والنقط السوداء وسرعة الضوء، وفناء بعض النجوم، واستمرار وصول ضوئها إلى الأرض رغم فنائها، لتكون شاهداً على بعد المسافات واتساع الكون وقدرته على التوسع بأمر ربه، التفكر في تعاطي الإنسان مع ما حوله ومدى استفادته من القوانين الكونية والموجودات الأخرى. الفيزياء علم الطبيعة، وبها قوانين كثيرة كانت وما زالت متاحة اكتشف الإنسان منها القليل جداً حتى لا يكاد يذكر، وخفي عليه من أسرار الكون ما عجز تفكيره حتى زمانه هذا عن اكتشافه. لقد ظل الإنسان في الغابة آلاف السنين حتى استطاع أن يكتشف الشواء بمحض الصدفة عندما لمع البرق، ونزلت الصواعق فأشعلت النار، فأصابت حيواناً، ذاق طعمه الإنسان فاستهواه فكان فتحاً في نمط معيشته. ثم اهتدى إلى إشعال النار بالاحتكاك بين حجرين، وبقي آلاف السنين على ذلك، وبعد ذلك تحول إلى الزراعة فكانت نقلة أخرى في حياته واستخدم الحيوان في نقل متاعه وحراثة أرضه، واستمر على هذا النمط وبهذه الأساليب التي ابتكرها آلاف السنين، لم ينتقل خلالها إلى مرحلة الاستفادة من القوانين المتاحة بين يديه وهي القوانين المتاحة لدينا حتى هذه الساعة. في المئتي سنة الماضية انتقل الإنسان إلى مرحلة أخرى متقدمة ومذهلة فأخذ يتنقل من مرحلة إلى أخرى مستفيداً من القوانين التي حباها الله البشر في القديم والحديث، لكن تفكير المعاصرين، ومن سبقهم في القرنين الماضيين كان يفوق من قبلهم من الناحية المادية، فاخترعوا القطار بتحويل الطاقة الثابتة إلى متحركة بعد أن كانت مقتصرة على الماء أو الحيوان أو الريح، فكان الوقود من فحم حجري والآن يلهث عن بديل له في الطاقة الشمسية أو الهدروجينية. العشر الأواخر من رمضان استثمار للوقت لما ينفع في الدنيا والآخرة، وماذا يضير المرء أن يجتهد فيها، وهي لا تشكل تقريباً سوى واحد من اثنين وخمسين جزءا من السنة، ينصرف فيها المرء عن ملذات الحياة مستمتعاً بلذة أخرى أنفع وأنجع. عندما يتذكر الإنسان سنوات عمره التي مضت وكأنها لم تكن، مرت سريعة دون أن يعي، وجنى منها وحصد ما استطاع حصاده، ليلقاه عند باريه بعد مماته. والحقيقة أن الإنسان لا يكاد يصدق السرعة التي تمر بها الأيام وهي أيام عمره تنقضي ومن ثم ينظر إلى ما بعدها. الأمل في عفو الله كبير، والسعي في مرضاته هو السبيل، راجين أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه وأن يكون قولنا وعملنا خالصاً لوجهه إنه سميع عليم، وأن نكون جميعاً من المقبولين عنده إنه على كل شيء قدير.