أيّ (مبادرة كبرى) ينوي الرئيس الأمريكي باراك أوباما طرحها لمحاولة إيجاد حل نهائي وشامل لأزمة الصراع العربي - الإسرائيلي؟ المسؤولون الأمريكيون يؤكدون أن أوباما سيوضح طبيعة هذه الخطة في مباحثاته مع قادة الدول العربية عندما يلتقيهم كما سيكشف عنها في الخطاب الذي يلقيه في القاهرة في 4 حزيران المقبل، على الرغم من أن هذا الخطاب سيكون مكرّساً أساساً لتحسين علاقات الولاياتالمتحدة مع العالم الإسلامي. بيد أنه بات في الوسع تلمّس الخطوط العامة لهذه (المبادرة الكبرى) من خلال البيانات التي أدلى بها بعض المسؤولين العرب والغربيين الذين إما التقوا الرئيس الأمريكي، كالعاهل الأردني عبد الله الثاني، أو اجتمعوا مع مسؤولين أمريكيين آخرين، كوزير الخارجية البريطاني ديفيد ميليباند، أو من خلال الدراسات التي أعدها باحثون مقرّبون من أوباما وفريق عمله، على غرار وولتر رسل ميد الذي نشر في مجلة (فورين أفيرز) (شباط - فبراير- آذار- مارس 2009) بحثاً يمكن اعتباره (القاعدة الفلسفية) لهذه المبادرة. ثورة كوبرنيقية فالملك عبد الله الثاني قال بعد لقائه أوباما إن المبادرة تتضمن (حل ال57 دولة)، الذي يقوم بموجبه العالم الإسلامي برمته بالاعتراف بإسرائيل، مقابل موافقتها على إقامة دولة فلسطينية والانسحاب من باقي الأراضي السورية واللبنانيةالمحتلة. قال الملك: نحن نعرض أن يجتمع ثلث العالم معهم (الإسرائيليين) بصدور مفتوحة. فالمستقبل لم يعد نهر الأردن أو مرتفعات الجولان أو سيناء، بل أصبح المغرب على ضفاف المحيط الأطلسي وإندونيسيا على ضفاف المحيط الهادي. هذه هي الجائزة. وتعتقد دوائر بريطانية أن (حل ال57 دولة) هو اختراع مشترك طوّره الملك وأوباما في شهر نيسان- إبريل الماضي في واشنطن، وأن تفاصيله ستُناقش خلال موجة التحركات الدبلوماسية العاتية التي من المقرر أن تشهدها واشنطن، حيث التقى أوباما رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في 18 مايو الماضي، والرئيس المصري مبارك في 26 منه والرئيس الفلسطيني عباس في 28 منه، ثم يتم تتويج كل هذه النشاطات في 4 يونيو حين يلقي الرئيس الأمريكي خطابه الموعود الذي سيوجهه إلى العالم الإسلامي من القاهرة. أما ميليباند فيعتقد أن جهود أوباما لإعادة إطلاق عجلة السلام في الشرق الأوسط هو (تطور لا يحدث سوى كل جيل مرة)، وأن هذه أيضاً هي المرة الأولى منذ عهد جيمي كارتر التي تُلزم فيها إدارة أمريكية نفسها بتحقيق السلام في المنطقة (منذ اليوم الأول لاستلامها السلطة). كما أن ميليباند أشاد بفريق أوباما لاعترافه بالحاجة إلى (إطار إقليمي) للتسوية، بحيث لا يوفّر هذا الحل لإسرائيل العيش بسلام جنباً إلى جنب مع دولة فلسطينية، بل أيضاً مع 21 دولة عربية والآن، ومع خطة (عبدالله - أوباما) مع 57 دولة إسلامية. هذا عن التوجه العام للمبادرة، لكن ماذا عن فلسفتها الخاصة؟ إنها تكمُن فيما وصفه وولتر رسل ميد (الثورة الكوبرنيقية) نسبة إلى كوبرنيقوس الذي اكتشف أن الأرض تدور حول الشمس لا العكس التي ينوي الرئيس الأمريكي إدخالها على المقاربات الخاصة بمفاوضات الشرق الأوسط: بدل أن تكون إسرائيل والإسرائيليون هم محور هذه المقاربات، تكون فلسطين والفلسطينيون هم هذا المحور. الباحث الأمريكي وولتر رسل ميد (مقرب من أوباما) المحاور الرئيسة لدراسة رسل ميد إدارة أوباما ستُحدث (قطيعة كوبرنيقية) مع الطريقة التي تقارب بها القضية الفلسطينية. ففي الماضي كان صنّاع السياسة الأمريكيون لديهم مقاربة حيال العملية التفاوضية متمحورة حول إسرائيل، لكن الآن على إدارة أوباما أن تضع السياسات الفلسطينية والرأي العام الفلسطيني في قلب جهودها لعملية السلام. هذا لن يعني إدخال أي تغيير على أهداف الولاياتالمتحدة وعلى العديد من سياساتها. فعلاقاتها مع إسرائيل ستبقى قوية لا بل ستتعمق. لكن، وعلى الرغم من ضعفهم العسكري وتفككهم السياسي، لا يزال الفلسطينيون يمسكون بمفتاح السلام في الشرق الأوسط. ولذا، إذا ما كانت الولاياتالمتحدة تأمل في خلق بيئة أكثر أمناً لإسرائيل، فعليها أن تبيع السلام إلى خصوم الدولة العبرية. لكن، ماذا تعني المقاربة المتحورة حول الفلسطينيين لا الإسرائيليين؟ إنها تعني، وفقاً لدوائر فريق أوباما الشرق أوسطي، أمرين متلازمين: الأول، الاعتراف من جانب كل الأطراف، وفي مقدمتهم إسرائيل والأمم المتحدة، بالظلم التاريخي الذي وقع على الفلسطينيين العام 1948 حين طُرد نصفهم من بلادهم وحُوّلوا إلى لاجئين. والثاني، التعاطي مع كل الفلسطينيين بلا استثناء، بما في ذلك الخمسة ملايين لاجئ في لبنانسورياوالأردن وباقي مناطق الاغتراب، والعمل على إيجاد حلول شاملة لهم. وهذا يمكن أن يتم عبر مبادرة الولاياتالمتحدة إلى تأسيس هيئة دولية تدرس كل المطالب المتعلقة بالصراع العربي - الإسرائيلي التي سيتقدم بها ليس فقط اللاجئون الفلسطينيون بل أيضاً اليهود الشرقيون الذين هاجروا من الدول العربية. رأسمال الصندوق يجب أن يتراوح بين 55 إلى 85 بليون دولار، تكون مساهمة الولاياتالمتحدة فيه كبيرة، لكن المساهمة الأكبر يجب أن تأتي من إسرائيل. في الوقت نفسه، يمكن اتخاذ خطوات عدة حيال مسألة حق العودة بالنسبة إلى الفلسطينيين. فأولئك الذين يختارون عدم ممارسة هذا الحق أو أن الاتفاقية النهائية بين الدولة الفلسطينية وإسرائيل تقيّد حقهم، يجب أن ينالوا تعويضات مهمة من هذا الصندوق. علاوة على ذلك، يجب أن يتم العمل لضمان ألا يبقى أي فلسطيني من دون هوية أو دولة، وأن كل الفلسطينيين يجب أن يتمتعوا بحقوق اقتصادية وسياسية واجتماعية كاملة. وهذا يعني ضرورة بلورة برامج لدمج الفلسطينيين في (الدياسبورا) في المجتمعات التي يعيشون فيها الآن، والسماح لهم بالهجرة من- وفي داخل الشرق الأوسط، وتوفير فرص مناسبة لهم. بيد أن الجهود لتوفير مستقبل للفلسطينيين يجب ألا تقتصر على الدول العربية، بل يجب أن تشارك فيها الولاياتالمتحدة وكندا وأستراليا والدول الأوروبية التي يجب أن تكون مستعدة لمنح الفلسطينيين تأشيرات هجرة. أما سورياوالأردن اللتان تقدمان إلى الفلسطينيين حقوقاً وضمانات، فيجب أن تحصلا على تعويضات كاعتراف من جانب الأسرة الدولية بجهودهما السابقة. العقدة الإسرائيلية كما هو واضح، المبادرة الأمريكية التي قد يطرحها أوباما تبدو طموحة للغاية وواقعية للغاية. فهي تنطلق من أصغر التفاصيل المتعلقة بوضع اللاجئين الفلسطينيين في أقصى المنافي، لتصل إلى توفير اعتراف 57 دولة إسلامية بالدولة العبرية إذا ما اعترفت هذه الأخيرة بالدولة الفلسطينية التي باتت ولادتها (مصلحة قومية أمريكية)، كما قال أوباما. لكن، ما موقف العرب والإسرائيليين منها؟ العرب في معظمهم سيصفقون بحماسة لهذه المبادرة، خصوصاً أنها تتضمن في تضاعيفها خطة السلام الشامل التي أقرتها قمة بيروت العربية العام 2002. لكن الصورة ليست على هذا النحو بالنسبة إلى إسرائيل التي ستكون على الأرجح العُقدة الرئيس في منشار أوباما. فأينما يمّم المرء وجهه، سيجد الدولة العبرية بالمرصاد لأي تقدم في الاستراتيجية الدبلوماسية الأمريكية الجديدة لا يصب في مصالحها الإستراتيجية هي، هذا إذا لم تعمل حتى على نسفها من أساسها. فقد بات سراً معروفاً أن تل أبيب استنفرت الكونغرس الأمريكي وباقي اللوبيات المؤيدة لها في مجلس الأمن القومي والبنتاغون، لإجبار إدارة أوباما على تحديد فترة زمنية لحوارها مع إيران يجب ألا يتجاوز ستة أو تسعة أشهر كحد أقصى. كما أنها وضعت لائحة شروط قاسية حول طبيعة أي اتفاقات قد تبرمها واشنطن مع طهران، في مقدمها رفض قبول الأسلحة النووية الإيرانية كأمر واقع. كما لم يعد سراً أن حكومة نتنياهو ستحاول أيّ - وكلّ جهد تقوم به إدارة أوباما لإعادة وضع قطار حل الدولتين في فلسطين على السكة، بعد أن استبدل نتنياهو مبدأ مقايضة الأرض بالسلام بما يسميه (السلام الاقتصادي). هذا لن يعني أنه لن يتفاوض وفق ما تريد واشنطن، لكنه سيفعل ذلك وفق ما تشتهي سفن المستوطنين في الضفة الغربية: أي التفاوض من أجل التفاوض. وحتى في مجال السلام السوري - الإسرائيلي، الذي يُجمع كل من الجيش الإسرائيلي وواشنطن على أنه ضروري لتغيير خريطة الصراع الاستراتيجي مع إيران، تبدو العقدة الإسرائيلية أكثر وضوحاً. فنتنياهو لايستطيع حتى ولو أراد (وهو لا يريد) إعادة الجولان، لأن ذلك سيفجّر حكومته اليمينية المتطرفة من داخلها. كل ما يستطيع فعله هو ما سيفعله مع الفلسطينيين: التفاوض من أجل التفاوض. ليس حباً بالسلام كيف سيكون رد فعل إدارة أوباما على هذه المواقف الإسرائيلية الاعتراضية؟ كل المؤشرات المتدفقة من واشنطن تشي بأن العلاقات بين الطرفين ستشهد توترات، وتجاذبات، وأحياناً (خناقات) قد تكون علنية. لكن، هل سيكون ذلك كافياً لتمكين الولاياتالمتحدة من توفير النجاح لاستراتيجيتها الإقليمية الجديدة؟ حتماً لا. فمن دون ضغوط أمريكية وعلنية مباشرة على الدولة العبرية، لن يكون وارداً أن تتوقف هذه الأخيرة عن لعب دور المثبط والمعرقل لكل تقارب أو انفتاح أمريكي على العالمين العربي والإسلامي. ومن دون وقف أسرلة (من إسرائيل) كل المواقف الأمريكية في الشرق الأوسط، لن يكون أي حديث عن تغيّر ما في السياسة الأمريكية أكثر من همس خافت وسط صحراء الربع الخالي. لكن، هل أوباما قادر حقاً على مجابهة إسرائيل أو حتى الضغط عليها، تحت شعار أولوية المصالح الأمريكية؟ ربما، إذا ما استطاع تحييد الجحيم الذي ستُشعل إسرائيل أواره في وجهه والذي لا يبعد عن البيت الأبيض سوى بضعة أمتار: الكونغرس الأمريكي! هذه نقطة. وثمة نقطة ثانية لا تقل أهمية: صحيح أن إدارة أوباما جادة في سعيها لتحقيق سلام عربي- إسرائيلي، لكنها لا تفعل ذلك حباً بالسلام بل لأهداف استراتيجية عليا تتعلق برغبتها في إغلاق ملف الصراع في المشرق العربي في سبيل التفرّغ لحروب أقصى الشرق الإسلامي، خصوصاً في أفغانستان وباكستان وإيران.