ظل المشهد يتكرر يومياً وكأنه جزء من مسرحية يشبه إلى حد بعيد المشاهد المفتعلة في المسرح العربي حالياً، حيث يقف الناس في محطة انتظار الحافلات، في تدافع وصراخ وتسابق مرير لركوب الحافلة التي غالباً ما تكون مقاعدها محدودة مقارنة بعدد المنتظرين في المحطة، وبالتالي فإن فرصة ركوبها خاضعة لمنطق القوة، فالفرصة للأقوى وليست للأسبق انتظاراً، وظل المشهد قائماً متكرراً ًوخاضعاً للمعيار السابق نفسه - معيار القوة -. وظلت النفوس متأزمة، والناس لا أحد يأبه بشكواهم المريرة، والمعاناة زادت حدتها إلى أبعد مدى. وبما أن التغيير سنة من سنن الكون، فقد تسلم قيادة الأمن رجل اتسم بالحنكة والحكمة وبعد النظر، فنظر إلى المشكلة بعين بصيرة وفكر في حل لها، فقرر إرسال ثلة من رجال الأمن عند كل محطة للحافلات، أوكل إليهم مهمة تنظيم ركوب الحافلات وفقاً لمعيار مغاير لما سبق - معيار القوة - وإنما معيار الأولوية لمن حضر أولاً وسعى مبكراً ثم من يليه ومن يليه، وأمرهم بأن يلجموا جماح القوة السابق بما هو أقوى منها، ودأب رجال الأمن على تنظيم الأمر، فاستتب النظام، وبدأ الناس يعتادون على أن معيار البكور وقوة النظام وليس نظام القوة هو المهم في الحصول على مقعد في الحافلة، وبعد فترة من الزمن لم تعد الحاجة قائمة لمن يقوم على التنظيم بل اكتفى مسؤول الأمن برجل واحد يحسم الأمر ويردع المعتدي بقوة النظام المحمية بقوة الأمن. اعتاد الناس النظام، وأصبح سمة تلقائية في سلوكهم، المتأخر لا يجرؤ على تجاوز دوره ولو كان قوياً، بل أصبح الناس قبل رجل الأمن يردعون من يحاول سلب حق غيره، وتعلم الناس من أنفسهم كيف يصنعون النظام، وكيف يطبقونه، وكيف يحمونه، وكيف يردعون من يخالفه. وعند تلك اللحظة لم تعد الحاجة قائمة لرجل الأمن، واستطاع قائد الأمن الحكيم أن يصنع ثقافة في المجتمع تحترم النظام، وأن يجعل من المجتمع رجل أمن يسهم في تطبيق النظام. إن مشكلة العالم الثالث الذي يعاني من تفشى الفوضى في كثيرٍ من مناشط المجتمع العامة، وسلوكياته اليومية، لا تكمن في افتقاره للأنظمة والتشريعات والقوانين، وليست ناتجة عن جهل السلطة التشريعية والتنفيذية بالممارسات الفوضوية التي يمارسها كثير من أفراد المجتمع ومؤسساته، وليست بسبب فقدان للتقنية والتجهيزات الحديثة، إنها بكل بساطة مشكلة ثقافية بالدرجة الأولى، نعم إننا لن نستطيع تغيير سلوك المجتمع من الخارج إذا لم نبدأ بتغيير قناعاتنا من الداخل، وعلى ذلك لا بد من أن نجذِّر في مجتمعنا القناعة بالسلوك الحضاري، ثم نحمله على ممارسة هذا السلوك بقوة القوانين والتشريعات المستمدة من قوة الدولة أولاً لكي يتأصل النظام في كل الظواهر الاجتماعية ويقوى، وبالتالي يصبح للنظام قوة نابعة من المجتمع ذاته. لا تزال هناك العديد من الممارسات التي نعتقد مخطئين أن التغلب عليها من المستحيلات وهذا غير واقعي، ففي كل موقع هنالك الحكماء والغيورون على نمط قائد الأمن الحكيم، الذين يمكنهم عمل الكثير ومن تلك الممارسات غير الحضارية على سبيل المثال رمي النفايات في الشوارع العامة، القيادة العشوائية للسيارات، عدم احترام حقوق الناس الخاصة والعامة، الهدر في الممتلكات العامة والخاصة، التعامل غير الحضاري في الأزمات، استنزاف وتدمير مصادر البيئة الطبيعية دون مبالاة أو إحساس بالمسؤولية تجاه حماية وتحسين البيئة.. تلك الأمثلة وغيرها الكثير تعكس ثقافة مجتمعية غير ناضجة مشابهة لذلك المجتمع الطفولي الذي يرى العالم من منظار مصلحته الضيقة الخاصة، وإذا اهتم بقضايا مجتمعة فهذا في نظره عمل اختياري تطوعي ليس ملزماً له في شيء. وللمقارنة فإن منحنى التطوير في المجتمع المثقف كاليابان وألمانيا كان سريع النمو متكامل العناصر يعتمد في سرعته وقوته على عنصر واحد رئيس وهو ثقافة وانتماء ووعي المجتمع بالمسؤولية الوطنية الجماعية، وبالتالي فسرعان ما نفضت هذه الدول غبار الانكسار العسكري والاقتصادي متكئة على صلابة وقوة البناء الاجتماعي والمهني. ولعل ما يقلق المتابعين لحركة التطوير في المجتمعات العربية بشكل عام هو أن منحنى التطوير التصاعدي في العقد الماضي بدأ في العدّ التنازلي في هذا العقد، حيث تزايدت نسبة البطالة، وارتفعت معدلات الجريمة وحوادث الطرق، وقلت الإنتاجية العامة للمجتمع، وغلبت سمة العشوائية وتضاءلت سمة المهنية والاحترافية في صناعة القرار وفي تنفيذه، وارتفعت نسبة ما يسمى بالفساد الإداري، تلك المؤشرات السلبية وغيرها تنذر بأن المستقبل لا يحمل في طياته الكثير من بشائر التطوير والنمو المواكب للعالم المتقدم إذا ما أضفنا تبعات الأزمة الاقتصادية العلمية الحالية. إن عقم حلول بعض من أزماتنا الاقتصادية والإدارية والتعليمية يعود إلى بعض الممارسات السلبية المتجذرة في ثقافة المجتمع، ومنها على سبيل المثال: الواسطة والمحسوبية والتمظهر والعصبية القبلية...، وتلك الممارسات السلبية الثقافية لاشك تسهم في عرقلة مسيرة المجتمع، وتفرز آثاراً سلبية أخرى، وتكمن خطورة مثل هذه الممارسات السلبية عندما تصبح في نظر البعض سمة إيجابية في محاولة لتبرير بعض السلوكيات، فمثلاً عندما يخون مسؤول حكومي أمانته ويمنح الوظيفة لرجل لا يملك من مؤهلات الكفاءة سوى درجة صلته بالمسؤول، ثم يصف المجتمع المسؤول الخائن بأنه شهم يعين جماعته وقبيلته..!؟. إن التطوير الحقيقي يكمن حماية القيم الفاضلة للمجتمع في الارتقاء بمهارات وقيم أفراده، وتعميم العمل بها بقوة النظام، وحين يعتادها المجتمع وتصبح جزءاً من نسيجه فإنه سوف يتكفل بعد فترة من التطبيق برعايتها والحفاظ عليها، ويجب أن نعلم أن تقويم سلوك المجتمع يحتاج مع قوة القانون والنظام إلى برامج توعية وتثقيف وفترة نضح ووعي وإدراك، كما أن استمرارية التوجيه والإرشاد والدعم سوف تضمن بتوفيق الله استمرارية نمو الوعي المجتمعي وارتقاء السلوك الجمعي، وشيوع القيم الثقافية الإيجابية، ولعل عثمان بن عفان رضي الله عنه عبر عن التكامل بين قوة النظام وبناء القيم بمقولته الشهيرة: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) وهو تكامل مطلوب، فالسلطان هو القوة والقانون، والقرآن يشتمل على القيم والمبادئ والعقائد والسلوك، وكلنا أمل أن يتحقق هذا التكامل.. [email protected]