أصدرت المحكمة الجنائية الدولية - قبل أيام - مذكرة توقيف متوقعة، بعد حوالي السنة من المداولات بحق - الرئيس السوداني - عمر البشير, بسبعة اتهامات تتعلق بجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية. نتيجة تدخل أطراف عالمية كبرى في الشأن السوداني، والكيد له، ومحاولة زعزعة وحدته. بل إن مطالبة - المدعي العام -للمحكمة الجنائية الدولية (لويس مورنيو أوكامبو) باعتقال - الرئيس السوداني - عمر البشير، وتقديمه إلى المحكمة الجنائية الدولية تشكل سابقة دولية خطيرة، لا يشك عاقل بتسييس هذا النوع من القضايا. وهو ما أشار إليه استطلاع للرأي العام نشر في الشهر الفائت، أن (91%) من الرأي العام العربي يرى أن ملاحقات المحكمة الجنائية الدولية تحركها دوافع سياسية. ومع أن وزراء الخارجية العرب رفضوا قرار المحكمة بإصدار هذه المذكرة ضد رأس النظام في الخرطوم، لما يترتب عليه من انعكاسات سلبية على الوضع داخل السودان كأمن واستقرار ووحدة أراضيه، ودخول أزمة دارفور في منعطف خطير من شأنه أن يزيد أعداد الضحايا، إلا أن المحكمة دعت الخرطوم إلى التعاون، وتسليم الرئيس السوداني مهددة باللجوء إلى مجلس الأمن في حال رفضها. أما وقد صدرت مذكرة توقيف - الرئيس السوداني - عمر البشير دون غيره من جرائم الإبادة غير المسبوقة التي قامت بها دول عظمى كالولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا وإسرائيل. فإن ذلك يثير العديد من الأسئلة المتعلقة بمصداقية تلك المحكمة وحياديتها وعدالتها ونزاهتها، ويعكس الخلل الحاصل في الموازين الدولية وفق أجندة ومصالح سياسية. حوصر - من خلالها - السودان في السنوات الأخيرة، وحجبت عنه المساعدات الدولية والمعونات الإنسانية، وجمدت حقوقه في اتفاقيتي (لومي وكوتونو). وإذا كان - المدعي العام - للمحكمة الجنائية الدولية شدد على أهمية أن يفهم العرب والمسلمون، أن هذه المحكمة تحاول حماية (5.2) مليون مسلم في دارفور، وهذا يعني أنها لا تعمل خلافا لمصلحتهم. إلا أننا على يقين، بأن هناك غيابا تاما لمفهوم العدالة دون اعتبار لحقوق الشعوب ومصالحها، فهو الذي رفض أكثر من (240) طلبا للنظر في الجرائم الأمريكية - البريطانية في العراق، والتي تشير بلا شك في تورطهما في جرائم حرب في العراق. واعتذر عن قبول النظر في تلك الطلبات بذرائع عدة، منها: أن بعضها لا يقع داخل دائرة اختصاص المحكمة، وبعضها غير خطير. مع أننا لم ننس الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في غزة، والتي لا تزال عالقة في الأذهان حين ارتكبت أعظم مجزرة في الأراضي الفلسطينية منذ حرب 1967 م، فسقط مئات الشهداء جراء القصف الإسرائيلي لقطاع غزة. بل كانت - تلك الحرب - أعنف وأشرس حرب تشنها إسرائيل منذ قيامها قبل (60) عاما، ارتكبت خلالها جرائم حرب وإبادة لم تتحرك بشأنها المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة رؤساء ووزراء إسرائيل. ولم ننس ما فعلته الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا في الحرب الهمجية ضد الشعب العراقيوالأفغانستاني، قتل خلالها ما يزيد على مئات الألوف من الأبرياء، هذا عدا الجرحى والمصابين بعاهات مستديمة، وشرد خلالها ملايين الأبرياء في داخل بلادهم وخارجها، وارتكبت خلالها جرائم حرب وإبادة لم تتحرك بشأنها المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة رؤساء تلك الدول. إضافة إلى أن حقوق الإنسان والحريات التي تعرضت إلى سلسلة طويلة من الانتهاكات الرهيبة في معتقل (غوانتانامو) في كوبا، وسجن (أبو غريب) في العراق، وسجون أخرى في أفغانستان، لم تتحرك بشأنهم المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة الرئيس الأمريكي (جورج بوش) لانتهاكه اتفاقيات جنيف عبر ممارسة جنوده التعذيب في حربها على الإرهاب. إن ثمة أهدافا أخرى يجب ألا تغيبها القراءة الصحيحة للأحداث الأخيرة، وهي أن: الولاياتالمتحدةالأمريكية ترسم مستقبل العلاقات السودانية الأمريكية على المستوى الاستراتيجي بعيد المدى. ففي دراسة أجراها - المؤرخ والمفكر العراقي - الدكتور عماد الدين خليل، يرى أن: (من الأسرار التي لا يعلمها إلا قليل من الناس أن أمريكا قد اكتشفت من قبل أن السودان كله يطفو فوق بحيرة كبيرة من النفط، لكنها لم تستخرجه، وتركته ليكون الاحتياطي الرئيس إذا اضطربت أحوال الخليج وأغلقت قناة السويس، وكان في خطتها أن تستخرجه وتمد أنبوباً يوصله إلى سواحل غرب أفريقيا ليشحن إليها بحرية عبر المحيط بعيداً عن المضايق، فجاءت حكومة الإنقاذ الإسلامي في السودان، وتحدت الإدارة الأمريكية، وبدأت في استخراجه قبل أوانه الذي حددته الاستراتيجية الأمريكية، ومن ثم كان الغضب الأمريكي على السودان. ولعل أمريكا بعد إنجاز حربها واحتلال العراق، سيكون أول بلد تصب عليه غضبها هو السودان، لوقف عمليات الاستخراج والاحتفاظ بنفط السودان كاحتياطي مستقبلي يوفر لها الطاقة). إذن الولاياتالمتحدةالأمريكية معنية بالاستثمارات النفطية في السودان من خلال حكومة موالية وصديقة. فلما ظهرت حكومة الإنقاذ الإسلامي في السودان عام 1989م، انتهجت الولاياتالمتحدةالأمريكية ضده سياسة المواجهة طوال عهد (كلينتون)، ونشرت سياسية العنف وتجارة السلاح في السودان، واتهمته بانتهاك حقوق الإنسان في دارفور، ومساندة الإرهاب، بل ساعدت على تكريس العداء بين السودان والدول المحيطة به كأوغندا وإريتريا وأثيوبيا، وقدمت دعماً سياسياً لا محدود للتجمع الوطني المعارض بزعامة (جون جارانج). ويبقى السودان بحسب دراسة أمريكية أعدها - ثمانية مستشارين للأمن القومي - قابلاً للتقسيم إلى ثلاث دول، حيث تقوم الفكرة على إنشاء دولة جنوبية نفطية غنية تدعمها الولاياتالمتحدةالأمريكية بالتكنولوجيا والسلاح، ودولة شمالية مرتبطة بمصر، ودولة في غرب السودان برعاية إسرائيلية. كل ذلك من أجل النفط الذي يستخرج منه العالم الصناعي (362) منتجاً ضرورياً للحياة المعاصرة، لاسيما أن هناك مؤشرات تراهن على أن بعض الدول الأعضاء في منظمة الأوبك ستنضب آبارها النفطية في المدى المنظور.