لماذا يزداد تعلقنا بأشيائنا حينما نشعر بفراقها؟ ولماذا نتشبث بها أكثر من أي وقت؟ ولماذا تتبدى لنا مكامن الحسن فيها كما لم تتبد من قبل؟ من أين امتلكت (لحظة الفراق) كل هذه القوة التي تتلاشى فيها الكثير من أحكامنا السابقة؟ وتخور عندها القوى التي زادت صلابتها بصلابة عين السخط ووهن عين الرضى؟ (لحظة الفراق) التي تصهر كل قوة في دواخلنا من أين لنا كل هذا؟ كيف تجعل من قسوتنا -التي ربما ألقيناها يوماً في درب أحدهم- كلاماً ليناً وظناً حسناً، بل وحسرة ممزوجة بالتياع؟ ولماذا تتبادر إلى أذهاننا أجمل الذكريات عند الوداع متسللة بين مصافحة الأيدي ومنسابة مع عناق الأحضان؟ وكيف ذاب سيئ كل تلك الذكريات مع ظاهر الدموع وباطنها؟ في (لحظة الفراق) لماذا تصمت الجوارح وتتحدث المشاعر؟.. وكيف تستطيع قوة كهذه أن تلجم أفواهاً ربما اعتادت الزلل وأجساداً ربما استمرأت الأذى وأنفساً ربما امتطت مطية الكبر؟ هذه الأسئلة وغيرها تسللت إلى قلمي وأنا أرى أبسط أشيائي التي سأرحل عنها تتبدى لي كتحف ومنحوتات لم يتسن لي يوماً أن أراها بكل هذه التفاصيل، وأن أتأملها بكل هذا الجمال وأقترب منها كل هذا القرب وإن صغرت! ولا ضير في عظمة الشيء أو وضاعته وكبره أو صغره ففي (لحظة الفراق) تعظم حتى الثواني بل أجزاء الثواني.. فتكون (اللحظة) التي لا تملك من هذه الدنيا إلا بضع ثوان عمراً فيه نولد وفيه نحيا وفيه نموت!! (لحظة الفراق) لا تكمن قوتها في لوعة البعد وإشعال نار الاشتياق فحسب! بل هي القوة التي تبرئ الأكمه (بإذن الله).. فيبصر في ليله ما يبصر في نهاره نظرة عادلة لا تزورها خائنات الأعين؟ ولا تسومها غفلتنا سوء العذاب..! نظرة للعقل فيها نصيب وللقلب فيها نصيب وللهمس الذي تلقيه أرواحنا مترنمة بقول (غادة السمان) في (اللحظة) نصيب. (كل ما تملكه مني ومن نفسك هو (اللحظة) فلنغزها بكل حواسنا لأن الفراق واقف خلف الباب ويد الحزن ستقرعه ذات ليلة..)