أكفٌّ متضرعة، وعيونٌ لامعة بدموع الندم والرجاء، وقلوبٌ متلهفة للقاء، ولتلبية النداء الذي أمر به المولى عزَّ وجلَّ نبيه إبراهيم أن يصدع به بين الخلائق ليحجوا إلى البيت المعمور. تنوعت قسماتهم وألوانهم وألسنتهم وأوطانهم ولكنهم توحدوا على المقصد والغاية، فتوارت الاختلافات والتباينات، ولم يبق إلا وحدة الغاية التي هجروا من أجلها أوطانهم وذويهم وجاءوا ملبين نداء الحق، شعثاً غبراً، مهاجرين من دنياهم بملذاتها ومشاغلها، متجردين من متاعها وهمومها، متحررين من كل ما يميز بينهم من عرض زائف، متجهين بأفئدة ملؤها الشوق وألسنة رطبها التكبير والتلبية. ما أبدعها من صورة لا يقوى على خلقها إلا الخلاق العظيم، فمهما أنفقنا من جهد ومال وطاقة لنألِّف بين هذا الجمع المتباين -بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ- لما استطعنا، ولكن الله ألَّف بينهم، فتجلى معنى الوحدة بين بني آدم على اختلاف مشاربهم في أرقى صورها وأسمى معانيها. الوحدة بين أناس لم يجمعهم إلا (الحب). نعم هو حب الهدف والغاية، حب المقصد الذي من خلاله يتحقق معنى الامتثال والخضوع لإرادة الخلاق العظيم، بذا يتحقق مفهوم العبودية في أجلى صوره. إن الحب هو الدافع الذي حرك هؤلاء الجموع من البشر، فلم يعبأ الكهل بعجزه، والمقعد بعلته، والأم بأولادها، والرجل بمشاغله، والشاب بملاهي الحياة، هجروا كل شيء رغبة في تحقيق غاية خالق البشر ومبدع الكون. ولأنها رحلة للقلوب قبل أن تكون رحلة للأجساد، فقد تسامت خلالها النفوس عمَّا يشوه فطرتها السليمة التي جبلها الله عليها، فلا رفث ولا فسوق، ولا جدال ولا تمايز، ولا اعتداء، بل حالة من الصفاء تملأ الصدور، ونور يتخلل كل مسام الجسد فيتجلى على الوجوه جمالاً ونضارة لا مصدر لها سوى يقين الإيمان الصادق. وطاقة تبعث الشباب حتى في الأجسام اليابسة، فتراهم مهرولين- كل قدر استطاعته- يرجون ما وعدهم به ربهم بأن يعودوا مطهرين من ذنوبهم، وأن تعود إليهم براءتهم التي وُلدوا عليها، مصداقاً لما بشر به المصطفى- صلى الله عليه وسلم. فما أعظمها من رحلة، وما أسماه من مقصد، وما أروعه من مشهد. رحلة حقق الإنسان من خلالها الوحدة والحرية من زيف الحياة الزائل، وأكد على معنى الحب الراقي، الدافع لحسن العبودية الخالصة لله سبحانه. وبذا جمع بين النقيضين- وما هما بنقيضين-: تحقيق الحرية الحقيقية من خلال العبودية الخالصة لله الواحد الأحد لا شريك له فيها. إنها وحدة وحرية وحب وخضوع للمولى عزَّ وجلَّ، وبها جميعاً يبقى الأمل قائماً في أن تعود الأرض إلى فطرتها النقية التي خلقها الله عليها.