هل الدكتور الأكاديمي وأستاذ الجامعة من فئة المثقفين؟ هل يمكن اعتبار الإعلامي المشهور والسياسي الناجح والمحامي الفذّ والجراح الماهر والمهندس المبدع من المثقفين؟ هذه الصفات تنضوي تحت فئة المتعلمين تعليماً عالياً من أصحاب التخصص المهرة. لكن التعليم العالي لا يضمن الثقافة.. في كتابه سوسيولوجيا المثقفين يتناول أستاذ الأنثربولوجيا الدكتور جيرار ليكلرك الإطار التاريخي والثقافي الذي تندرج فيه صورة المثقف، وعلاقته بمحيطه وتاريخه وبالسلطة والتقاليد.. وسنحصر هنا التركيز على أحد فصول الكتاب، وهو عن المسافة بين المثقفين والمتعلمين.. التواصل والقطيعات.. يرى كوزر (Coser) أن المثقفين معنيون بالدرجة الأولى بالبحث عن الحقيقة وبالاحتفاظ بها، وبالقيم الجمعية والمقدسة، التي تتحكم في جماعة أو مجتمع أو حضارة. ومن ثم نجد أن هذه الوظيفة الثقافية تشكل حقلاً مختلفاً تماماً عن المتعلم صاحب التخصص من أستاذ جامعة أو معلم مدرسة إلى الطبيب والمهندس والإعلامي والسياسي، الذي وظيفته هي تطبيق نظام المؤسسة التي يتبعها.. المثقف ينخرط أو ينجرف ويتورط في المشهد العام، ويعيش من أجل الأفكار.. أما المتعلم فإنه يعيش بالأفكار، أي يمارس المباشرة التطبيقية لأفكار خاصة. فالمثقف يتجاوز حقله المهني سواء كان أديباً أو مؤرخاً أو مهندساً، ليتناول أموراً ليس خبيراً فيها، لكنه يرى نفسه متورطاً فيها.. إنه الشخص الذي يهتم بأمور لا تعنيه إطلاقاً، حسب تعبير سارتر.. المثقف متطفل فضولي بطبيعته، يتجاوز إلزام تخصصه المهني بسبب ما لديه من روح ناقدة وباحثة. وهذا ما حدده ماركس، إذ أشار إلى أن الفيزيائي المتخصص بالذرة حين يتحدث عن الانشطار النووي فهو يتحدث بوصفه عالماً، لكن حين يتحدث عن الاستخدام العسكري للذرة فهو يعبر عن نفسه بوصفه مثقفاً. فحين يقوم الاختصاصي باتخاذ موقف من مأساة إنسانية تقع في الطرف الأخر من العالم، تكبر المسافة بين المثقف والمتخصص.. ويميز كوزر بين الذكاء والعقل. المثقف هو رجل العقل والمتخصص هو رجل الذكاء. فالذكاء معني بالاهتمام النفعي المباشر في التخصص، من خلال المهارة التقنية والخبرة المهنية، أما العقل فهو ينفصل عن التجربة المباشرة، إلى شكل من المسافة تجاه العالم المباشر، عبر اهتمام قوي بالأفكار. والعقل يعبر عن نفسه عبر شكل من (الالتزام) تجاه القيم المفارقة، عبر شكل فكر تأملي ونظري، ما يتعارض مع الفكر العملي التطبيقي عند المتخصصين خاصة المهنيين. ويتعارض الفكر النقدي الذي يميز المثقفين عن الفكر الامتثالي نسبياً، الذي نجده لدى أغلب المتخصصين حتى الأكاديميين منهم.. ففي التجارب والأبحاث والدراسات الجامعية مثلاً، نجد المتخصص يستبطن الأعراف والقواعد الموروثة من الماضي والمنقولة عبر المؤسسات، وقلما يقوم بنقدها.. وحتى في الشؤون الثقافية نجد أن المتخصص قد صار حرفياً ماهراً يؤدي مهنته بطريقة تتعارض مع مهنة المثقف.. وذلك يوازي الفكرة التي اقترحها بارسونز (Parsons) حين عارض مجال الرمزي والثقافي من جهة وحقل ما هو اجتماعي من جهة أخرى، في حداثة يسيطر فيها التخصص وتقسيم العمل.. ويرى هوفشتادتر (Hofstadter) أن التعارض (المقابلة) بين الذكاء والعقل هو كالتعارض بين الفكر العملي والفكر النقدي، وبين تطبيق الأفكار الموجودة وخلق أفكار جديدة.. كالتعارض بين الوضعية المهنية (أستاذ، طبيب، عالم، قاض..) وبين الدعوة لرسالة إنسانية يجب تحقيقها خدمة للجميع.. ومع ذلك فإن هوفشتادتر يرى أن حالة التعارض هذه لو حدثت، فإن المثقف ليس بصاحب فكر خيالي، منفصلاً عن الواقع والحياة اليومية، بل هو ثمرة التوازن بين الالتزام والقطيعة. فهو يمزج ذكاء المتخصص والخبير مع ممارسة العقل التي تميز المثقف.. وبناء على طرح هوفشتادتر قام ليبست وباسو بالمقارنة بين انعزال أو انطواء المثقفين على أنفسهم (الفنانين والكُتاب) وبين انفتاح المختصين المهنيين والخبراء.. حيث يقوم الذكاء (الخاص عادة بالمهنيين) بمحاولة جعل سيطرة الناس على العالم ممكنة عبر العلم والتقنية، بينما يقوم العقل (الخاص عادة بالمثقفين) بحمل الناس على الانسجام مع العالم وجعل العالم منسجماً مع الروح.. وهنا كان التعارض متقاطعاً مع تعارض آخر لدى المثقف يشير إلى الاندماج وإلى الابتكار، أو الخيار بين المشاركة في السلطة أو الانسحاب.. حيث المثقف الحديث يعطي أولية للابتكار في إطار الحقل العقلي (أبحاث علمية مبتكرة، إبداع فني وفكري)، وللالتزام في الحقل السياسي.. أما المتعلم المختص فموقعه على الأرجح داخل المجتمع، حيث النصوص لها سطوتها وأوليتها، أي نصوص كُتاب أنتجوا معرفة لا يمكن النقاش فيها، أو هي نصوص أُطلق عليها حكم جمالي، أو أُعطيت صفات جمالية لا يمكن تجاوزها، بحيث صارت نماذج مقننة ينبغي الاقتداء بها دون سواها.. ولكن رغم صفة نقد النصوص والنظم الفكرية التي يتصف بها المثقف، إلا أن المثقفين يعتبرون من مستعملي الإيديولوجيات أو من المروجين لها، بل وأكثر من ذلك هم من المنتجين والمبدعين للإيديولوجيات، على الأقل فيما يخص الشريحة العليا من المثقفين (الأنتلجنسيا).. فالمثقف لا يخضع للإيديولوجي بل هو يعتبر بدوره إيديولوجياً محتملاً.. إن المثقفين المسيطرين هم من الإيديولوجيين؛ و(الأنتلجنسيا العليا) هي مملكة إنتاج الإيديولوجيات بامتياز. ولكن هل المثقفون هم من ينتج الإيديولوجيات، أم أن الإيديولوجيات هي التي أنتجت جماعات جديدة أطلقنا عليها اسم (مثقفين)؟ من معاينة ما حدث في أنجلترا وفرنسا في القرن الثامن عشر ألا يمكن اعتبار الإيديولوجيات أصلاً أو أساساً لولادة المثقفين؟ وكذلك بالنسبة لألمانيا عند بداية القرن التاسع عشر الذي يعتبر سيطرة الهيجيلية الفكرية بداية الأدلجة الدنيوية (العلمانية) هناك.. إيهما كان الأول: الإيديولوجي أم الإيديولوجية؟ المثقف أم نظام الفكر الجديد؟ المتعلم المختص والفقيه أم النصوص الموروثة؟ السؤال الأخير لا مجال لطرحه فثمة أسبقية وتعال للنص الموروث.. أما المثقف فهو ينتج الخطابات العامة والدنيوية الجماعية، وهي خطابات نعرفها تحت اسم الإيديولوجيات التي غالباً ما تضاف إلى أسماء الذين أبدعوها: السيمونية (من سان سيمون)، الهيجلية، الماركسية، النيتشوية، اللينينية، الماوية.. وفي حالات قليلة فقط، تعتبر هذه الإيديولوجيات وقد انتشرت في المجتمعات خطابات جمعية، وهنا تكتسب أسماء وصفية ورمزية صرفة كالليبرالية، النفعية، الاشتراكية، الفوضوية، العدمية، الفاشية، النازية..الخ. وتختلف علاقة المثقف مع الإيديولوجيا عن علاقة المتعلم المختص مع الخطابات الموروثة أو علاقة الفقيه ورجل الدين مع الخطابات الدينية، فرجال الدين عقولهم تقيم داخل المؤسسة الدينية أو هم يلوذون بها، وهم على تبعية لها.. أما موقع المثقفين من الإيديولوجيا فهو العالم الخالي من القداسة، حيث لا وجود - على الأقل ظاهرياً - لأي نوع من تعالي النص أو الخطاب.. وبهذا المعنى يمكن القول إن بداية ظهور المثقفين كانت نتاج ولادة الإيديولوجيات.. إنهم حملة الإيديولوجيات الدنيوية أكثر مما هم مبدعوها.. هذه الإيديولوجيات التي ستزعم الحلول مكان الخطابات القديمة والقائمة.