قد يكون عنوان المقال مستفزاً لكل من يفسره على أنه تحجير فكري أو حظر لممارسة الإبداع، كلا فهو ليس كذلك البتة، فلا أحد يستطيع أن ينتزع من أي إنسان (إبداعيته) المتجذّرة فيه بخياله الخلاّق الذي يوصله إلى إنتاج أفكار جديدة (الأصالة).. إذن لأي شيء كان العنوان يؤشِّر؟ الإبداع ليس ظاهرة إنسانية فريدة فحسب، بل هو ممارسة ذهنية جريئة تهواها النفوس وتعشقها العقول، فالإبداع من أكثر الظواهر التي تشد الانتباه، والإبداع يستجلب قدراً أكبر من الدهشة بالناتج الجديد وسماته وآثاره.. فالإبداع قنطرتنا للاكتشافات والطروحات الجديدة في ميادين العلم والفلسفة والأدب، وهو الحبل الذي نتوصل به إلى الاختراعات والابتكارات في مجالات التقنية، وهو أداتنا للتغيير والتجديد في أساليب العمل والإنتاج.. فإن صح ما نعتنا به الإبداع - ولمّا نوافيه حقه - فإن ذلك يقودنا إلى الإشكالية التي أومأنا إليها في العنوان، وهو أن بعض الناس قد يمارس تنظيراً صارماً أو يصدر (فتاوى) تشخيصية أو علاجية حيال الإبداع دون أن يكونوا قادرين على ذلك.. نقول ذلك ونحن نؤكد في الوقت ذاته على إمكانية أن يكون لكل منا نظرات أو رؤى حول الإبداع.. لا إشكال في أن نحمل نظرات أو رؤى مبدئية، ولكن المشكل هو اعتقادنا بصحة تلك النظرات وصلابة تلك الرؤى، دون أن يكون لنا - على الأقل - قراءات متعمقة حول الإبداع: ماهيته وعملياته الذهنية المعقدة والخصائص والمهارات العقلية والسمات الشخصية ونوعية المشاكل وطبيعة علاقة الإبداع بالمعرفة والدافعية والإدراك وأنماط التفكير والضغوط والحالة النفسية والأوضاع الاجتماعية والإطار الثقافي والحضاري وغير ذلك كثير.. إذن لنا جميعاً الحق في أن نقول شيئاً عن الإبداع.. لنا أن نتناول بعض مسائل الإبداع فنتحدث مثلاً عن العوامل التي نرى أنها تشجّعه وتنمّيه في الفضاء الثقافي الذي يحتوينا ويصنع قوالب تفكيرنا.. لنا ذلك ولكن بشرط اعترافنا بأنه مجرد وجهات نظر تعوزها الدليل وتفتقر للأساس المنهجي والبناء المفاهيمي التي تعتبر شرطاً رئيساً للتغلغل داخل أحشاء الظاهرة الإبداعية وليس ذلك إلا للمتخصصين الذين يمتلكون ذلك.. تماماً كما نفعل بالخبز.. فنحن نشتريه كل يوم من خبّازه مع أننا قد نخبز أحياناً! ولكن قد يُقال بأن هذا الطرح يمثل تحجيراً لواسع وقولبة لمتماهٍ، بل هو يتناقض مع حقيقة الإبداع الذي يتمرد على أشكال التحجير أو القولبة، فكيف تزعمون حماية الإبداع وأنتم تغتالونه في جوهره، فأي شيء يحملكم على اقتلاع جذور الإبداع لدينا تجاه الإبداع ذاته! وربما زادوا: أفلا يسعنا ويسعكم فضاء الإبداع الرحيب أم أنه ضيق الأفق الذي يقودكم إليه تخصصكم في هذا المجال؟ هل نتنازع حول هذا الأمر وثمة إجماع كبير على شدة تعقيد ظاهرة الإبداع وما يحيط بها من عوامل معيقة أو ميسرة للممارسة الإبداعية في مختلف المواقف لاسيما أن الإبداع لم يدع مجالاً إلا خالطه وامتزج به، فقد خالط وامتزج بالفلسفة وعلوم التربية والنفس والاجتماع وصبغ الأدب واقترن بإدارة الأعمال ووقّع عقداً إستراتيجياً مع البحوث والتطوير وتصالح مع العلوم والهندسة! هل يسوغ لنا الاختلاف حول ضرورة إسناد مسائل التنظير والتشخيص للمتخصصين، ونحن نشهد حركة بحثية ضخمة في مجال الإبداع تجهد لأن تتفهم الظاهرة الإبداعية على المستوى الفردي والجماعي والمؤسسي والثقافي والحضاري وتعالج إشكالياته وجدلياته، لدرجة أن أحد الباحثين دعا إلى تأسيس (علم الإبداع) Creatology Magyari-Beck, 1988 ليكون قائماً بذاته؛ له منهجيته ومصطلحاته وأدوات استكشافه وقياسه، وقد أحسن بعض الباحثين العرب حين فطنوا لأهمية ذلك وبدؤوا بتبني طروحات مشابهة كما في سلسلة (علم النفس الإبداعي) التي يشرف عليها الدكتور مصري عبدالحميد حنورة.. نعم الإبداع كل مباح لكل أحد، فلكل منا الحق المطلق بممارسة الإبداع في مجالات اهتمامه وتخصصه وفق ثوابتنا ومسلماتنا.. كما يحق لمن يمتلك فهماً جيداً للإبداع أن يطرح رؤاه حول الإبداع لكنه في هذه الحالة مطالب بأن يجلّل طرحه بقدر من التواضع الذي يجب أن يستصحبه كل من ولج ميداناً لا يمتلك من أدواته إلا القليل ولا يتفهم مداخله ومخارجه ولا يعرف شفراته وأسراره.. وتأسيساً على ما سبق فسيكون لنا في هذه الزاوية رصد تحليلي وتناول علمي للظاهرة الإبداعية في أبعادها الفردية والجماعية والمؤسسية والثقافية والحضارية؛ كما أننا سنزاوج بين التنظير والتحليل والتشخيص والتقييم والتطبيق والتعليق على بعض مظاهر الإبداع أو بواعثه أو منتجاته؛ منطلقين من الأدبيات العلمية مع الإشارة إلى أهم المراجع والأبحاث، وسنتجاوز اللغة الأكاديمية الجافة حين نحاول فك بعض (شفرات الإبداع)! *** لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7569» ثم أرسلها إلى الكود 82244 دكتوراه في الإبداع [email protected]