كشفتُ في الجزأين السابقين من هذا الموضوع عن بعض (الممارسات النقدية) التي يقوم بِها عددٌ من (النقَّاد) الذين يتسبَّبون في (تشويه) (النص الأدبي) أثناء معالَجته (تفسيرا) و(تقويما)، وأوضحتُ أنَّ (الأسس) و(المبادئ) التي تنطلق منها بعض (المناهج النقدية الحديثة)، ويعتنقها أولئك (النقَّاد).. .. منطلقين منها في (معالَجاتِهم) تُسهِم إسهاماً فاعلاً في هذا (التشويه)، وتفتح أبواب (الفوضى) على مصراعيها ليُعربد (النقَّاد) في (الخطاب الأدبي)، وفي هذا الجزء من المقال سأحاول أن أستكمل الحديث عن هذه (المبادئ) و(الأركان)، سعياً إلى الكشف عن (مساوئها)، وفضح (الأثر السلبي) الذي تتسبَّب فيه أثناء (المعالَجة) و(التقويم). فمن تلك (الأفكار) و(المبادئ) التي تُخرِج (النص الإبداعي) مُشوَّهاً على أيدي (النقَّاد) (افتراض) قارئٍ (مثالِيٍّ) قادرٍ على (فكِّ) (مغاليق النص)، ليس هذا فحسب، بل أن يكون غيرَ تابعٍ ل(طبقةٍ) معينة، أو (جنسٍ) مُحدَّد، أو (دولةٍ) ينتمي إليها، كما أنَّ هذه المناهج تشترط أن يكون القارئ (مُتحرِّراً) من أية خصائص (أقوامية)، أو افتراضات (ثقافية مُقيَّدة)، والمعضلة الكبرى أنَّ هذه المناهج -وأخصُّ هنا (البنيوية)- تعترفُ أنَّ هذا النوع من (القُرَّاء) (يستحيل) وجوده، ولا شكَّ أنَّ الإيمان بِهذه (الرؤية) يَجعل (القارئ) غير مُوقنٍ بفهمه (للنص)، وغير مُتأكِّدٍ من صِحَّةِ (تفسيره)؛ لأنَّ هذه (الشروط) لا تنطبق عليه، ومن ثَمَّ يَجدُ نفسه (مُضطرَّاً) إلى (الاستعانة) بِهؤلاء (النقَّاد) الذين اخترعوا هذه (الكذبة) وصدَّقوها وطبَّقوها، ولا يَجدُ إلا (التسليم) بِما يقولونه، و(الخضوع) لِما (يُنتجونه) من (تفسيرات) و(تأويلات)، حتى لو كانت (هرطقاتٍ) لا علاقة لَها ب(النص) المُعالَج، لا من قريبٍ ولا من بعيد! وما دُمتُ أتَحدَّثُ عن (البنيوية) في هذا السياق فتجدر الإشارة هنا إلى (رؤيةٍ) مُهِمَّةٍ تنطلق منها في (معالَجة النصوص)، وهي أنَّ (الأعمال الأدبية) لا تَمتلك معنى (أحاديا)، وهذا الإلحاح على (تعدُّدية المعاني) في نصٍّ معين -كما يقول Jefferson (آن جفرسون)- هو النتيجة (المنطقية) لغياب كُلِّ (قصدٍ) للمؤلف في (الأدب)، و(فتح الطريق) للتخلُّص من فكرة وجود معنى (مركزي) للنص، فبانعدام أيِّ (دليل) على (المقاصد) (يستحيل) عادةً (التقليل) من (الالتباسات) التي تَحفل بِها حتى لغتنا اليومية، وواضحٌ ما تؤدِّي إليه هذه (الرؤية) من (جُسورٍ) (للعبث) بالنص، و(تشويهٍ) لِما يُمكن أن يَحمله من (دلالات)، صحيحٌ أنَّ (التعدُّدية) في المعاني غير مرفوضة، بل إنَّها مِمَّا يدلُّ على (بُعد نظر) الناقد و(ثراء) النص، إلا أنَّ المرفوض هنا هو (المبالغة) في فتح الباب لكلِّ أحدٍ في قول ما يَحلو له؛ بِحُجَّة (جواز التعدُّد)، دون أن يكون هناك (مرجعيةٌ) واضحة و(مُنطلقٌ) صحيح، يعتمد عليها (الناقد) في (استكناه) (الدلالات) التي يَحملها (الخطاب الإبداعي). ومن (أركان) المناهج التي تساعد (النقَّاد) على (تشويه) النص، و(العربدة) فيه، طبيعة رؤيتهم (للغة النقدية) التي تقوم على (التقديس) و(التبجيل)، والنظر إليها ب(إجلالٍ) و(تعظيم)، وأنَّ هذه (اللغة) التي يُكتب بِها (النقد) لا بُدَّ أن تسير بِخَطٍّ مُتوازٍ مع (النصِّ الأدبي) من ناحية (الإبداع)؛ ولذلك فلا مَجال لتحقيق ذلك سوى مُحاولة تعمُّد (الغموض) و(الإبهام)، وإتخام (الممارسة النقدية) بِمجموعةٍ من (الألفاظ) و(العبارات) و(المصطلحات) الموغلة في (الغرابة) و(التعقيد) و(الإيهام)، حتى يُمكن أن تَحصل هذه (اللغة) على نصيبها من (الاهتمام)؛ وبالتالي تظلُّ (الممارسة النقدية) حاضرةً غير متواريةٍ أمام (إبداع النص) الذي يكاد يسرق (الأضواء) منها، ومن ثَمَّ فإنَّ المعالَجة وِفقاً لِهذه (الرؤية) ستخرج عن مسارها الصحيح؛ لأنَّها ستهتمُّ بنفسها وتُغفل (النص)، وهو انحرافٌ عن (المهمَّة الرئيسة) للممارسة النقدية، ومن ثَمَّ بروز مُعالَجات (عبثية)، ليس بينها وبين (الخطاب الإبداعي) أدنى (وشيجة). وتتوالى المبادئ (العجيبة) والرؤى (الغريبة) لبعض (المناهج النقدية الحديثة) التي تَمنح فرصاً كُبرى للنقَّاد (للعبث) بالنص و(العربدة) فيه و(مسخه) و(تشويهه)، فمنها (الرؤية) التي ترى من خلالِها هذه (المناهج) (الهدف) الأهم من (الممارسة النقدية)، وهو القصد إلى (إبهار) (القارئ)، ومُحاولة (إدهاشه)، و(لفت نظره) إلى هذه (الممارسات النقدية) التي تُطبِّق (أسس) هذه (المناهج)، وتسير وفق (مبادئها)، و(إيهامه) بأنَّ ما يُقال في هذه (الممارسة) وما يُكتب بلغتها (استثنائي) وغير عادي؛ ولذلك فإنَّ من (الجرائم) التي لا تُغتفر عند أصحاب هذه (المناهج) مُحاولة (تبسيط) المعلومات، وتقديم (الطلاسم) التي يَخترعونَها، وتفكيك (الشفرات) (الفكرية) و(النقدية) التي يَختلقونَها إلى (المتلقي) بوضوحٍ وسهولة؛ لأنَّهم يرون أنَّ هذه (المناهج) ينبغي ألا يتعامل معها إلا (نُخبة النخبة)، ويؤكِّدون أنه يَجب ألا (يُمارس قراءاتِها) سوى أصحابِها وحسب. ولذلك فهم يزرعون بواسطة هذا (الغموض المتعمَّد) (الرهبة) في نفوس (المتعاملين) معها، ويَخلقون بسبب هذه (المراوغة المقصودة) (الخشية) في نفوس (المتلقين)؛ كلُّ ذلك لأجل أن يُحيطوا أنفسهم بسياج سَميك، بوصفهم الفئة التي بلغت مرحلةً مُتقدِّمةً من الثقافة (الفكرية) و(النقدية) و(اللغوية) و(الأدبية) التي تَمنع من وصول غيرهم إليهم، ولأجل أن يوهِموا (العامَّة) بأنَّهم يعيشون في برجٍ عاجيٍّ لا يُمكن (للمتلقي) العادي بلوغ مكانتهم، ولا شكَّ أنَّ ترسيخ هذه (الرؤية) والسير وفقها يَمنح الفرصة للناقد (للعبث) بالنص، وتقديم تفسيراتٍ (عبثية)، تَهدف إلى (إدهاش) القارئ، وتُوهِمه أنَّ هذه القراءة النقدية (استثنائية) و(مُنتخبة)؛ ولذا فلا عجب إذا لَم يفهمها، ولا غرو إذا لَم يَجد صِلةً بينها وبين (النص) المنقود، ويبقى (المتلقي) المسكين (مَخدوعاً) بِهذه (القراءات)، ويقف أمامها وقفة (إكبار) و(إجلال)، ومن ثَمَّ يَمتطيها فرحاً مسرورا، وهو لا يعلم أنَّها لن تقوده إلى (فضاءات النص)، و(دلالاته) الصحيحة أو المحتملة، أو (المعاني) التي يُمكن التدليل على صحتها، بل إلى (عبثٍ) و(هذيان)، وتَهوي به إلى (طلاسم) و(هرطقاتٍ) لا تفعل سوى (تشويهٍ) و(عربدةٍ) و(مسخٍ) لِهذا (الخطاب الإبداعي) الذي تعب (مُنشؤه) ليوصله إلى (المتلقي) بِما يَحمله من (دلالات) و(جَماليات) و(إيحاءات) و(رموز) كان يأمل أن تصل إلى (المتلقي) واضحةً صحيحةً لا لبس فيها. ولَم تسلم مناهج (ما بعد الحداثة) من مُحاولة (ترسيخ) رؤى تساعد (نقَّادها) في (عربدة) النص و(تشويهه)، ومن أبرز تلك الرؤى الاهتمام (المبالغ فيه) ب(المتلقي)، كما يذهب إلى ذلك أصحاب (نظرية التلقي) الذين نقلوا العناية من (النصِّ) إلى (المتلقي) بوصفه (الركن الأهم) في (العملية النقدية)، و(بالغوا) في هذه (الرؤية) إلى الدرجة التي يرون فيها أنَّ (النصَّ) لا قيمة له من دون (القارئ)، وينظرون إلى (القارئ) بوصفه (خالقاً للنص)، ومانِحاً إياه (دلالاته) و(وجوده)، وهذه (الدلالات) (اللانِهائية) لا يُحدِّدها سوى (المتلقي) فحسب، مستبعدين (النصَّ) و(المؤلف) و(السياق) وكلَّ ما سوى (المتلقي). بل إنَّ (القارئ) في نظر هذه (المناهج) يتحوَّل من (مستهلكٍ) إلى (منتج)، فهو يَمتلك (حُريَّةً مُطلقةً) في (كتابة) النص، و(تفسيره) بالطريقة التي يريدها، على أن تكون قراءته (إساءةً) لقراءةٍ أخرى، و(تدميراً) للقراءات (التقليدية) السابقة، ومن ثَمَّ يَحِقُّ لِهذه (القراءة) أن تُسمَّى (قراءةً إبداعية)، ولا يَخفى ما تؤدِّي إليه هذه النظرة من إشاعة (الفوضى) في (النص)، وفتح أبواب (العبث) فيه لكلِّ (قارئ) و(ناقد)، مُستظلِّين بِهذه النظرة التي تُقدِّس (المتلقي)، وتبصم على العشرة بأنَّ كلَّ ما ينتجه من (دلالات)، وما يكشف عنه من (معان)، صحيحٌ لا مَجال فيه للخطأ والإخفاق. وختاماً.. فإنَّ الناظر لغالب (المناهج النقدية الحديثة)، والمتأمل في كثيرٍ من (مبادئها) و(أفكارها) و(رؤاها) التي تنطلق منها في (معالَجة النصوص الإبداعية) سيجد أنَّها تُرسِّخ (للعربدة) فيها، و(تشويهها)، وإخراجها بصورةٍ (مَمسوخة)، لا علاقة لَها ب(لغتها) ولا بِ(مؤلفها)، ولا صلة بينها وبين سياقاتِها (التاريخية) و(الاجتماعية) و(الحضارية)، و(الملابسات) و(الظروف) المحيطة بِها، وكان يُفترض بالناقد (الواعي) أن يأخذ من هذه (الرؤى) و(المبادئ) ما يَخدم به (النص)، حيث تكون عوناً له في تقديم (الدلالات) الصحيحة التي كان (المؤلف) يقصدها، أو كان (النصُّ) يوحي بِها، ويشير إليها، مُعتمداً في ذلك على (اللغة) التي كتب بواسطتها هذا (الخطاب الإبداعي)، وناظراً بأطرافٍ متعددِّة إلى (المؤلف) و(السياقات الخارجية) المحيطة به وب(نصه)، و(السياقات الداخلية) التي تربط أجزاءه، غير مُغفلٍ عدداً من (المؤثرات النقدية) التي تساعده في تقديم (الدلالة) الصحيحة التي يُطمئَنُّ إليها؛ ك(العرف الاجتماعي)، والوعي ب(شخصية) الشاعر و(حالته النفسية)، وغير ذلك مِمَّا يُعين على فهم (النص الأدبي) فهماً صحيحاً، لا (عربدة) فيه ولا (تشويه). [email protected]