قرر الهروب من منطقة وسط البلد، حيث اختلط البنيات السكنية بالتجارية، والبيوت بالدكاكين، فلم تعد أسرته تخرج إلى شارع قلقا من حركة الغرباء، ولا إلى السطوح أو الشرفة خوفاً من العيون المتلصصة. اشترى قطعة أرض في مخطط سكني لا يسمح فيه إلا بإقامة الفلل والبناء على نسبة محددة من الأرض دورين وملحق فقط، وفرح بفلته سنوات.. حتى بدأ جاره في بناء عمارة سكنية بثلاثة أدوار مسلطاً كل إطلالات شرفاته وشبابيكه على أحوشة جيرانه وأسطحتهم. ثم انتشرت العدوى كالنار في الهشيم، فبنى كل من لم يبن على نفس النسق، وهدم بعضهم الفلل وأقام مكانها بنايات سكنية ومكتبية وشقق مفروشة. وفتحت البقالات والمطاعم، وازدحمت الشوارع والمواقف، ونقص نصيبه من الماء، وزاد الضغط على شبكة الصرف الصحي فبدأ الطفح وما يتبع من الروائح، وباتت الحفريات داء يومي لملاحقة طلبات المنشآت الجديدة وتحولت جنة الحي السكني الراقي إلى جحيم. بعض جيرانه في الزمن الجميل هربوا من الحي إلى أحياء سكنية جديدة (يفترض) أنها للفلل فقط، كما ينص النظام (اليوم)، على أمل أن البلدية لن تغير رأيها ويخرج رئيس جديد، أو مدير تراخيص (متفهم ومتفاهم) أو حتى مراقب بلدية (كريم) فيسمح من جديد بما سمح به غيره في الأحياء السكنية الأخرى. أما صاحبنا، فقد فهمها صح وقرر أن يرضي بقرده حتى لا يأتيه الذي هو أقرد، ويكتفي ب(مقلب) واحد وخسارة (واحدة) بدلاً من أن يبيع ويقترض ليكرر الفيلم نفسه، ويعيش الكابوس من جديد. لن أقول في البلدان المتقدمة، ولكن حتى في المدن الأخرى الأكثر التزاماً بالنظام والأقل شهية لاسترضاء المستثمرين وظلم السكان، ليس من حق مسؤول أن يغير النظام بأثر رجعي، فيسمح بتحويل منطقة سكنية إلى صناعية أو تجارية، أو حتى بزيادة الأدوار. فما ذنب من شرى وبنى على النظام المعتمد قبل التغيير؟ وكيف يستطيع أن يزيد دوراً ثالثاً وهو لم يحسب حسابه إلا على دورين؟ وماذا يصنع بحديقة منزله التي أصبحت مكشوفة من كل اتجاه؟ هل يغطيها بالحواجز من كل ناحية ويسجن أسرته في صندوق من حديد؟ الأنظمة وضعت لكي تحترم، والمدراء وضعوا لكي يطبقوها. آن الأوان لأن تفهم بلديات جدة (ومن مثلها) هذا المبدأ وأن تلتزم به اختياراً أو تلزم به. [email protected]