تستقبل أمتنا المسلمة شهر رمضان الكريم، الذي عشره الأولى رحمة، وعشره الثانية مغفرة، وعشره الثالثة عتق من النار.. شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.. شهر رمضان، الذي شهد في فترات من تاريخ أمتنا انتصارات مجيدة على أعدائها. وكاتب هذه السطور يسره أن يزف إلى الجميع تهنئته بحلول هذا الشهر المبارك، ويسأل الله أن يتقبل من المسلمين كل عمل صالح. أما بعد: فقد اشتملت الحلقة الماضية من هذه المقالة - من بين ما اشتملت عليه - على الحديث عن عنصرين من العناصر الستة التي ذكر الباحث الكريم، خالد الحروب، في مقالته التي عنوانها (جذور الدعم الأمريكي لفكرة قيام إسرائيل) أن الباحث الأمريكي، وولترميد، عزا إليها دعم أمريكا للصهاينة. وهذان العنصران هما الرؤية المسيحانية لدى المحافظين من الشعب الأمريكي، التي ترى في عودة اليهود إلى فلسطين استكمالا للنبوءات الدينية المسيحية، والرؤية الليبرالية، التي ترى أن اليهود تعرضوا - عبر التاريخ - لاضطهاد وأن مشروع الحداثة الغربي لا يكتمل بدون رفع ذلك الظلم والتكفير عنه. واشتملت تلك الحلقة، أيضا، على التعليق عما ذكر حول العنصرين المشار إليهما. أما العنصر الثالث، الذي ذكره الباحث وولترميد، وراء دعم أمريكا لإسرائيل فهو تماهي صورة قيام إسرائيل وسيرورته مع صورة قيام أمريكا وسيرورته. فالبروتستانت المسيحيون، الذين هم عماد قيام الدولة الأمريكية، هربوا - كما يقول من جحيم الاضطهاد الكاثوليكي في أوروبا لإنشاء كيان مثالي في العالم الجديد. واليهود هربوا من الاضطهاد في أمكنة مختلفة إلى عالمهم الجديد - القديم لإنشاء كيان مثالي لهم. ومن الواضح أن في ذلك القول ما فيه من التعميم. على أن المهم هو أن فكرة هذا العنصر سبق أن أوضحها عدد من الكتاب في طليعتهم - ومن أخطرهم - المستشرق الصهيوني برنارد لويس. فقد كتب ذلك المستشرق عدة مقالات - بعد انتقاله من بريطانيا إلى أمريكا - قارن فيها بين تكوين الدولة الأمريكية وتكوين الدولة الصهيونية في فلسطين. وهدفه مما كتبه إظهار وجوه الشبه في تكوينهما؟ ومن ثم وجوب توحيد نظرتيهما إلى الأمور؛ وبخاصة ما يتعلق بالمنطقة العربية. ومضى، بعد ذلك، في اندفاعه لإظهار أهدافه الرامية إلى خدمة الصهاينة، والتأليب على المسلمين، لا سيما العرب الذين هم في وسط المعركة مع الدولة الصهيونية المغتصبة لفلسطين. وكان الناقد والمفكر المشهور إدوارد سعيد في طليعة الذين كشفوا حقيقة موقفه. وقد ترك ذلك الكشف أثرا كبيرا في الأوساط العلمية المخصصة بالدراسات الإسلامية والعربية. على أن لويس نال حظوة لدى الإدارة الأمريكية المتصهينة؛ وبخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بحيث أصبح بمثابة المرشد العام للمتصهينين؛ وفي طليعتهم ديك تشيني الموجه الأكبر لسياسة الإدارة الأمريكية. وكنت قد كتبت عنه مقالة من ثلاث حلقات نشرت في الجزيرة، ثم أعيد نشرها في كتابي كتابات عن التصهين. وأما العنصر الرابع وراء دعم أمريكا لإسرائيل في نظر الباحث وولترميد، فهو أن تأييد إسرائيل التوراتية يوفر مبررا لجرائم أمريكا الاستيطانية من لحظة قيام دولتها عن طريق خلق اقتناع بأنها هي في الواقع إسرائيل الجديدة. ولذلك فتأييد قيام إسرائيل يعزز شرعية قيام أمريكا ذاتها في وجدان أفرادها. ومن الثابت تاريخيا أن الذين تدفقوا على أمريكا الشمالية، واغتصبوها من أهلها الذين سموا بعد ذلك بالهنود الحمر، كان أغلبهم من الأنجلو - ساكسون، وكانوا من البروتستانت. وكانوا - وهو المهم هنا - متشبعين بعقيدة التصهين بحيث سموا بعض أولادهم ومستوطناتهم بأسماء عبرية؛ بل وسموا أمريكا نفسها إسرائيل الجديدة. وكان عنوان أول أطروحة دكتوراه في جامعة هارفرد، سنة 1642م، العبرية هي اللغة الأم. ومن مظاهر تحمس بعض الشخصيات الكبيرة منهم أن الرئيس الأمريكي، جون آدمز، دعا، سنة 1818م، إلى قيام حكومة يهودية مستقلة في فلسطين، وأن جورج بوش - وقد يكون ذا صلة بالرئيس الأمريكي الحالي - قد كتب، عام 1832م، كتابا عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، مليئا بالعبارات الدالة على الحقد، وقال فيه: (ما لم يتم تدمير إمبراطورية السارزن (يقصد المسلمين على سبيل الاحتقار) فلن يتمجد الرب بعودة اليهود إلى وطن آبائهم وأجدادهم). وفي عام 1891م طالبت الحكومة الأمريكية الدول الأخرى بأن تعطى فلسطين لليهود. والعنصر الخامس لوجود التأييد الأمريكي الجمعي لإسرائيل؛ وبخاصة لدى الأمريكيين الأفارقة واليساريين، هو اقتناع أولئك الأفارقة بأنهم يشاركون اليهود في معاناة الاضطهاد، واعتقاد اليساريين بأن إنشاء المستوطنات اليهودية في فلسطين تجسيد للأفكار الاشتراكية. والواقع أن الإعلام الصهيوني بلغ درجة من المهارة لا تضاهى بحيث انخدع الأفارقة - أو أكثرهم - فأصبحوا يظنون أن العرب مسؤولون عن جلبهم إلى أمريكا أرقاء. وبما أن فلسطينقطر عربي فتأييد الصهاينة لاحتلاله أمر مطلوب. ولقد فصل الكاتب الأمريكي، ديفيد ديوك، وأجاد في كتابه الصحوة دور اليهود في تجارة الرقيق؛ الأسود ماضيا والأبيض حاضرا. فبرجوعه إلى سجلات سفن الرق، وكتابات عدد من المؤرخين اليهود أنفسهم، وجد أن اليهود كانوا يهيمنون على تلك التجارة. بل إن تجارة الشحن؛ وبخاصة في منطقة الكاريبي، كانت مشروعا يهوديا؛ إذ لم تكن السفن مملوكة لليهود فحسب؛ بل كانت تزود ببحارة يهود وتبحر بإمرة قادة يهود. وبالنسبة لليساريين فمن المعروف ما يوجد من صلة وثيقة بين الصهيونية والشيوعية. وأغلب قادة الثورة البلشفية في روسيا، والمؤثرين في تسييرها، كانوا يهودا. ومما يوضح ذلك أن بطاقة بريدية وزعت على نطاق واسع في الشهور التالية للثورة وكانت تتضمن صور ستة من زعمائها هم: لينين، الذي كانت أمه يهودية، وكان يتكلم اليديشية (العبرية باللهجة الروسية) في بيته، ومتزوجا من يهودية، وتروتسكي - واسمه اليهودي ليف برونشتاين - وزينوف - واسمه اليهودي هيرش أبفيلياوم - ولونا كادسكي؛ وهو غير يهودي، وكامينوف - واسمه اليهودي روزنفيلد، وشيفر دلوف؛ وهو يهودي. وإضافة إلى ما سبق كان على رأس البوليس السري الروسي يهودي اسمه موسى أوريتزكي. وكان كبار أعوانه من اليهود؛ وبينهم ياجودا، الذي أشرف على تنفيذ برامج راح ضحيتها أكثر من عشرة ملايين إنسان. أما العنصر السادس؛ وهو الأخير، من العناصر، التي ذكر الباحث وولترميد أنها تشكل الرؤية الأمريكية الجمعية المؤيدة لإسرائيل، فهو الاقتناع بوجوب التضامن مع الدولة اليهودية لأنها صغيرة مهددة من أعدائها. والواقع - كما يراه كاتب هذه السطور - أن أكبر عامل أدى إلى هذا الاقتناع لدى قطاع من الأمريكيين هو الإعلام الصهيوني الماهر، الذي تمكن - بمساعدة وسائل الإعلام في أمريكا المسيطر عليها من قبل اليهود الصهاينة بصفة عامة - من قلب الحقائق بحيث بدا وكأن الدولة الصهيونية دولة ضعيفة لا تريد إلا السلام في حين أنها في الواقع دولة عدوانية عنصرية كانت - وما زالت - ترتكب أفظع الجرائم بالفلسطينيين وغيرهم من العرب. والمذابح الرهيبة التي ارتكبها قادتها قبل إقامتهم كيانهم على أرض فلسطين وبعد إقامتهم إياه، معروفة حق المعرفة لدى من لم تغش أبصارهم حجب عن معرفة الحقيقة، ولم تسيطر على نفوسهم الدعاية الصهيونية المضللة.