أبدأ بسؤال طالما راود الجميع منا: هل للمنصب والكرسي، حلاوة وجاذبية تجعل من يجلس عليه مرة سواء كان رئيساً أو مديراً يستلطفه ويحب أن لا يفارقه إلى الأبد. لقد كان يتصور أنه لو غاب عن الحضور للعمل ليوم واحد فقط فإن جميع المصالح في الإدارة ستتعطل وستتوقف تماماً إلى أن يحضر ويشرف عليها بنفسه، لذا تجده طيلة مدة خدمته الوظيفية والتي قاربت الأربعين عاماً مشدوداً إلى العمل واستمرار التربع على الكرسي فهو لا يحب مفارقته لحظة، يحضر إلى العمل باكراً قبل بدء العمل بنصف ساعة وينصرف بعد نهاية العمل بأكثر من ساعة، يظن أن العمل الشاق والمنهك هو وسام يعلقه الموظف على صدره، أو ميدالية ذهبية يفوز بها، لم يتمتع بأي إجازة اعتيادية أو اضطرارية طوال فترة عمله، حتى إذا مرض تجده يتحامل على نفسه ويحضر إلى العمل، وهب وقته كله لعمله متخلياً عن راحته متناسياً حياته الاجتماعية وأشياء أخرى تعتبر ضرورية واعتمد على الآخرين في القيام بها نيابة عنه، لقد اغتال العمل أجمل أيام عمره. بدأ حياته موظفاً بسيطاً ثم تدرج في السلم الوظيفي حتى أصبح مسؤولاً كبيراً في الوزارة التي يعمل بها، إنه يعتبر مثالاً للموظف المكافح الذي سار على الدرب حتى وصل إلى هدفه، أحبه جميع العاملين معه فهو أنموذج للموظف المخلص الملتزم المتفاني في حب العمل، ولكن هناك شيء فيه لا يحبه موظفوه ممن يعملون تحت إدارته، ألا وهو كرهه لأي طلب إجازة يتقدم به أي موظف سواء كانت عرضية أو اعتيادية فهو يحب العمل المستمر الذي لا يتوقف. وهكذا مضت السنين تلو السنين، وهو مهتم بعمله على حساب نفسه وعائلته، متناسياً ما يحيط به، حتى أن مظاهر المدينة وتضاريسها قد تغيرت وهو لا يشعر بهذ التغير أو يلحظ هذا التبدل، فلقد كانت الوظيفة بالنسبة له هي كل الحياة التي لم يعرف شيئاً غيرها، وليس هناك مكان آخر يمكن الذهاب إليه ويفارقها. لقد كان يثير استغرابه انتظار الجميع للأعياد والمناسبات الحكومية والإجازات الصيفية، وكان يحاول إقناعهم بثقافة جديدة يؤمن بها في حب العمل والبقاء فيه، ويرى أن موسم الصيف فرصة له ولغيره لتولي مسؤوليات ومهام زملائهم الذين أخذوا إجازاتهم الصيفية. لذا تجد أن فصول السنة عنده متساوية لا فرق بين صيف أو شتاء أو خريف أو ربيع، فهو يحب العمل المتواصل ولا يشعر معه بتغير المناخ وتبدل الأوقات. وبعد حوالي أربعة عقود من الخدمة والعمل المتواصل جاءت اللحظة التي لم يتوقعها ولم يحسب حسابها وربما نسيها أو تناساها رغم تذكير أصدقائه له بها، فلقد استدعاه المسؤول الأول في الوزارة التي يعمل بها ليشكره على ما قدم للعمل من جهد وتفان وإخلاص طوال سنوات خدمته، ويبلغه بقرار إحالته للتقاعد، الذي كان له وقع الصاعقة عليه. لقد حزن كثيراً ليس على نفسه فحسب، بل على العمل الذي سيتركه كيف سينجز بدونه في حال غيابه إلى الأبد، كان يتصور أن الوزارة ستعلن حالة الحزن يوم خروجه منها، وأن ميزان الكون سيختل في ظل غيابه عن العمل، صحيح أن زملاءه افتقدوه وحزنوا عليه ولكن تم تعيين مسؤول آخر احتل الكرسي الذي لم يعرف غيره طوال أربعين سنة. لقد مضت أيام عليه وهو لم يستوعب بعد ما حدث، فقد كان يتأهب كل يوم كالمعتاد في الوقت المحدد للخروج للعمل، ولكن يتم تنبيهه بأن ليس هناك ما يستدعى الخروج. لقد صادرت منه الوظيفة سنين عمره وأعطاها أكثر مما أخذ منها، وتخلت عنه ولم يتخل عنها، لذا نجد أن هناك سؤالا يتكرر لكل مسؤول في موقعه عن مدى استعداده لتلك اللحظة ومدى قدرته على تحملها، هذه اللحظة الحاسمة والمشابهة التي ستأتي وتنزله من حب التربع على الكرسي والمنصب لتضعه على أرض الواقع، وهذه سنة الحياة فالأمور تتغير والدنيا إلى زوال ولا يخلد شيء، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام!!! e-mail:[email protected]