النص - أي الآية القرآنية، والحديث النبوي، الصحيح في ثبوته، الصريح في دلالته - يتفق مع العقل، لكن بشرط أن يكون هذا العقل صحيحاً صريحاً، أي خالياً من الشبهة المتعلقة بالتفكير، ومتجرداً أيضاً من الشهوة الناجمة عن الهوى والميل.... ....والقول بعدم توافقهما - أي العقل والنص - ناتج عن خلل يساور العقل - أي أنه متلوث بشبهة، أو مرتكس في شهوة - لا عن قصور في شمولية النص، فالعقل يتسق - لا كجوهر قائم بنفسه، مجرد عن المادة في ذاته، كما في الحد الفلسفي، وإنما كعرض قائم بسواه، مرتبط بما عداه - مع النص، بحسبه رؤية سماوية، ووحي إلهي يشتغل على إثراء آفاق الذات، وإضاءة الوجدان الإنساني؛ ينسجم العقل - بحسبه معطى متأصل ثابت في الإنسان، وليس مجرد عرض معرفي عابر - مع النص الذي يتضمن - كجزء من كينونته - طبيعة الاستجابة لمتطلبات اللحظة العصرية واحتياجاتها، العقل الصريح الصحيح لا يتنافر، بل يتناغم مع النص، فثمة تقاطع يبدو أن عبرة، ويتجليان من خلاله، ويشكلان معاً وحدة تجانسية متكاملة، والعقل مع النص كما يؤكد الإمام الفذ (ابن القيم) رحمه الله: (كالعامي المقلد مع المفتي العالم، بل ودون ذلك بمراتب كثيرة لا تحصى) انظر (الصواعق المرسلة) 3-808 . في المقاربات الاستاتيكية، يستحيل الاتفاق بين طرفي المعادلة النص والعقل، فالعقل الاستاتيكي يفتقر للأطر الملائمة لاستيعاب دالات النص، ولذا فهو يتعاطى مع النص - أن قرآني أو حديثي - بسطحية متكاملة، فهو يستحضر الضدية في السياق العلائقي بين النقل والعقل، ويتراءى له أن المبادئ الكلية النصوصية لا تفضي إلا إلى إقصاء العقل ونفي مخرجاته. العقل في هذا الطرح يقدم بحسبه ثائراً على النص، يقدم بحسبه مبدداً لإشراقات النقل، ومبعثراً لوهجه، يقدم كعقبة كؤود بفعل هذا التوظيف غير العقلي للعقل! العقل هنا في حالة تعبئة شعورية دائمة، أنه يعيش حالة استنفار، يتوجس من كل نص، يعيش توفزاً متحفزاً لا يقر له قرار. إن العقل من غير زاد نصي رحب، يتمظهر كإشكالية مزمنة، يتعرى أمام ذاته فضلاً عن غيره؛ إذا لم تجر قولبة البعد العقلي على ضوء الرؤى النصية، فإنه سيظل منفياً خارج الدائرة العقلية مهما زُعم له سوى ذلك. عندما تنفق الطاقة العقلية في حقول لم تمنح القدرة على الإحاطة بها فالفشل هو المصير المنتظر، لماذا؟ لأنه يجري التوسل بأداة لم تخلق لارتياد هذا المجال. إن التعاطي مع العقل والنص باعتبار أن التلاؤم والانسجام هو العلاقة المتأصلة بينهما شأن في غاية المحورية، يورث انتفاؤه ضرباً من انعدام الفاعلية والضمور. القول بمباينة العقل للنص في حقيقته، فرع عن الإخفاق العقلي التام في التناغم مع أفق النص السامق، عدم استيعاب النص، هو الآخر، فرع عن جلالة نصية، ومفردة بيانية، تخور أمامها - كوسيط معرفي محلق - العقول البسيطة ذات القالب الإدراكي المحدود، أن القطع بالتقاطع الضدي بين النص والعقل ليس حالة فردية محدودة، بل هو ظاهرة شمولية عامة، ذات حضور عمومي باذخ، تنتظم وبوفرة ملحوظة، أرباب الألباب الكسيحة التي تخور أمام العمق النصي، ترتعد فرقاً فرائصها، ومن ثم تبحث جراء ذلك عمّا يسوغ لها إلغاء النص عبر القول بعدم انسجامه مع العقل. جميع المفردات التي يُزعم بأنها تباين العقل، قد اضطرب فيها أرباب العقول ولم يتواضعوا فيها على شأن واحد، فما يثبته عقل مّا، ينفيه عقل مغاير، وما يسلّم به هذا العقل، يقطع بنقيضه عقل آخر، فيرى أحدهم أن هذا شأن توجبه الضرورة العقلية، بينما يحكم الآخر بمنعه انبعاثاً من الضرورة العقلية، وهكذا يتموضع التباين الحدي في أعلى قوالبه، وحينئذ لا بد من مرجع، لأن العقل كما أومأنا إلى ذلك يتذبذب من عقل إلى عقل آخر، على نحو يمتنع إحالة الناس إليه لأنه لا سبيل لهم إلى ثبوته - أي العقل - وهنا تتعين الأوبة إلى النص والصدور عنه؛ إن الجهل بطبيعة البنية العقلية يؤول إلى تعاط لا عقلاني مع العقل، ومن ثم تبيت العقول المهترئة، هي الإرطار المرجعي المحدّد لآليات التعاطي مع العقل!!، العقل المفتقر للوعي بطبيعة الاشتغال العقلي يتموضع هنا كمرجع يحتكم إليه مع أنه غير مؤهل لذلك!، يفعل ذلك مع عدم توافره على معرفة عميقة بالمحددات الخاصة بالعقل التي يفتقد العقل عقلانيته بافتقادها!!؛ جلّ الرؤى المفاهيمية المناهضة للنص جرت لأنها كانت بواسطة العقل فحسب، هذا العقل الذي من الطبيعي عندما يستحضر لوحده بعيداً عن النص أن يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه؛ لأن توسل الإدراك العقلي بمفرده، ليس إلا ضرباً من المجازفة العقلية، وغير خافٍ أن الاعتماد المطلق على العقل المجرد آل إلى إنكار الوحي، بل إلى الشك في الوجود الإلهي ابتداء، كما هو الحال عند الأب الروحي للعقلانية (ديكارت) ومن نهج مسلكه ك(سيبنوزا) و(لايبنتس). إن إبليس الذي بلغ من السوء منتهاه، هو أول من عارض النص بقياس عقلي مركب من مقدمتين زعم عبرهما توافره على الخيرية في أسمى ألوانها، وادّعى أنه خلق من مادة فاضلة بخلاف آدم أبي البشر الذي صنع من مادة مفضولة!!، وهكذا يعمل أبو مرة المتحمض للإغواء، على التأسيس لحالة من الاعتراض الفوضوي الذي لا يستند إلى دليل، على نحو حقت عليه اللعنة وكتب عليه الصغار. بفعل عبث هؤلاء الذين يعارضون النقل بالعقل لم يعدّ العقل قوة باطنية يعتمد عليها في معرفة طبيعة الأشياء، وإنما بات عقلاً متذبذباً يجسد الاضطراب في أسوأ مناحيه، فاستحال العقل من دواء إلى مصدر للداء، ومن دافع للثقة إلى باعث على الارتباك. إن من المعروف أنه ليس كل عقل حقيق بسمة عقل، لأنها نعت تتقازم أمامه كثير من العقول، إنها ليست كلأً مباحاً يتلبسها كائناً من كان، وإنما هي حد سامق لا يتخلق إلا وفقاً لقسمات الخطاب النصي عندما تتموضع كجزء من السلوك الشخصي العام لدى الفرد. يتعذر على العقل عقلنة اشتغاله العقلي، ما لم يعتمد على إنارة نصية من خارج إطاره، تعلي من قيمته، فينعم بالإشراق، والاستنارة الفكرية، إن استقرار هذه الحقيقة الكبرى - التوافق بين العقل والنص - في خلد الفاعل العقلي أمر حيوي يضيء له السبيل، ويحدد معالمه، ويزيل عنه كثيراً من الغبش الحاجب لصفاء الحقيقة؛ إذا أوكأ الفاعل العقلاني العقل بالنقل فسيشعر بهدوء الضمير كحقيقة تسكب في روحه، حقيقة يتذوقها لا معنى يدركه فحسب، حقيقة يعيش فيضها فيجد الري والاسترواح والظل الظليل الذي تستروحه الذات ويتراقص له الجنان، انه شعور روحي يعبر عن وضاءة عقلية، في حين أنه عندما تنفصم عرى العقل بالنص في ذهنية الذات المعرفية، فإن العقل سيصبح مصدر قلق وباعث معاناة ومثار نصب، وهذا إفراز بديهي لأن العقل معطل عن وظيفته معاق عن الالتقاط ومعرقل عن الاتساق مع نسق النص بقالبه التعبيري الفريد. إن اليباس العقلي يحول دون تماس نوعي خلاق مع النص، فتتضاعف الهوة بين النقل والعقل المحجوب عن النص، والمشدود عن معاينة معانيه، أو استشعارها، والخضوع لمنطلقاتها الضمنية. إن اجتراح مناهضة النص وتبديد بريقه على نحو مباشر، يضع صاحبه في مأزق يتعسر عليه تجاوزه، بل يكون عرضة للإدانة التي لها تبعاتها على المستويات قاطبة، وهذا شأن يحتاج لجرأة فكرية نادرة من نوعها، تعوز الكثيرين الذين يتفادون التبعة في متباين ألوانها، ويفرقون هلعاً من المساءلة الدستورية أو الاجتماعية على وجه الخصوص، وهذا هو ما يدفع بمن شاء الشغب على الحقيقة النصية، سلوك مسلك يوفر شيئاً من الأمان، ويؤمّن ضرباً من التبرير، وهو الزعم بأن ثمة مانعاً عقلياً يوجب رفض النص، وعدم التسليم بمؤدياته؛ ان الهوس بالشهرة وحب استقطاب الأضواء، يحدو بصاحبه أحياناً إلى استهداف المفردات الدينية بالمحاربة حتى ولو كانت محل تنصيص قطعي مباشر من الفاعل الرسولي الذي لا يتفوه بعبارة عن الهوى. إن الأصل هو أن نحرض العقل، ونفعل حضوره، ولا نزج به في سياقات تناهض طبيعته الجبلية، كما تفعل بعض القراءات التي تدعي العقلانية مع افتقارها إلى محدداتها، إذ إنها تتوخى وإن لم تفصح عن ذلك أن يتوارى العقل وأن يأخذ مصيره إلى الاندثار، هذا الطرح الذي يعاني من عاهات عقلية حادة، لا يكشف عن تقنية تأويلية، ذات صبغة علمية، بقدر ما يسفر عن انحيازات وجدانية مكثفة، لا تشتغل إلا على إلغاء فردية الفرد عبر شيئنته ومصادرة منحاه الإنساني. اتساق المنطق الداخلي شأن يتعالى على قدرات هذا الخطاب الذي تتضاءل لديه الفاعلية المعرفية إلى درجة الأفول بفعل ازوراره الوجداني ومن ثم تجافيه القرائي عن النص، وتنكبه عن جادة القيم التأويلية ذات المنحى الموضوعي. إن الدين كما يؤكد الخطاب القرآني شمولي متكامل وليس بحاجة إلى عقل يصار إليه، ليستدرك عليه، ويتلافى انحساره، والذين يمارون في هذه الحقيقة الناصعة هم في حقيقتهم لا يوقرون املاءات منطق العقل بل يتوخون أن يعودوا به القهقرى. إنهم يناوؤن الجبلّة، ويعملون ضد خط الصعود الإنساني: العقل في هذا المفهوم مختطف، مفرغ من محتواه، خاوٍ من معناه الأصيل، الذي يستوحي منه قيمته الأولى، العقل حسب هذه الرؤية مبتوت الوشيجة بالنص، ولذا فهو يتأرجح، حائر، مُقلقل، متذبذب، يراوح الرأي، لا يستقر على مسلك، ولا يستقيم على سبيل!!. [email protected]