لعله من حسن حظ الإنسان أن منحه الخالق عز وجل هذا الوعاء الذهبي الذي ندعوه بالذاكرة من أجل أن يحتفظ فيه بأهم الأحداث التي مرت بحياته منذ الطفولة حتى يرجع إليها مستعيداً ما حدث لفائدة انتشال سيطرة الضعف والخطأ من ذلك الحدث على ضوء ما انتهى إليه, ولذلك فإنه من النادر أن تتكرر نفس المواقف على ضوء التشخيص السابق بارتكاب الخطأ, إذ انه من المفروض طبيعياً الاستفادة مما مضى نحو الأحسن ما عدا الذين لاتمدهم تجاربهم بغطاء عقلي فعال, حيث ان الإنسان عقب وقوعه أو ارتكاب عمل جدير بالمراجعة أن يشعر بالأسف لفشله ويحاول أن يتلمس الخطوات التي أدت إلى تلك النتيجة, ومن هنا كان إبعاد المجرم عن بقية أفراد المجتمع لغاية ان يستعيد في ذهنه فردياً المشهد الكامل منذ بداية ارتكاب الخطأ وانتهاء بوقوعه في أيدي العدالة ليعاقب نفسه وتصرفه ومحاولة التخلي عن ذلك الموقف بغية أن يستعيد ثقة الآخرين بسلامة نيته حتى وإن أدت إلى التخطيط لارتكاب جرم باعتبار الخير يتغلب على الشر في الذات الإنسانية. للعلم فإن كافة الأعمال الخالدة إنما انتزعها الإنسان من قاع الذاكرة بعد أن تنامت وتفاعلت مع الافكار والتصورات التي أخذت السيل الناضج بهدوء مع تتالي التجارب التي عبرت حياته وأمدتها بذلك الرصيد المتنامي من الفاعلية وهي عملية معقدة قد لا تشاهد على السطح بسهولة لأن تفاعلاتها تأخذ منحنى تطورياً عن طريق طرح البدائل النفسية لتواكب تشابك العلاقات الذهنية. والذاكرة هي التاريخ الشخصي لكل إنسان, السري والعلني مع الفارق الكبير, ذلك أن التاريخ العلني ينطوي على افعال يمارسها الإنسان في حياته اليومية الاعتيادية ولاينقصها سوى التسجيل الذي تفعله الروايات, أما السري فذلك تفاعل ويصطخب في الأعماق تخفيه حتى الأحلام فما يشغلك ليس من السهولة أن ينشب في أحلامك الغيبية وذلك مالم تستطع العلوم تفسيره حتى الآن (خارج نطاق الكوابيس) بمعنى انك تفكر ملياً في أمر ما أو شخص معين ومع ذلك فإن أحلامك تأخذك إلى مسار آخر لم تفكر به منذ بضعة أعوام, والكتاب أكثر الناس اهتماماً بالشئون العامة وهو ما يسيطر على تفكيرهم ويدفعهم نحو منغصات العيش والمتاعب مثل الاكتئاب الذي ينشب مخالبه في حياتهم. ومع بقاء ذلك الوعاء سليماً تغرف منه العلوم والفنون مساراتها لتتطور الحياة الإنسانية نحو الجديد والأفضل والمفروض أن نبعد الشوائب عن ذلك الوعاء ولانغرس فيه سوى ما ينطوي على أهمية لأهدافنا وقد قيل ان ذلك الوعاء حين يمتلئ يتخلص من كمية مما خزنها حتى يستضيف الجديد من الأحداث ذلك أن الحياة تفرز على المدى الكثير من العلوم التي نستقبلها في أواخر أعمارنا وكانت غائبة في فجر شبابنا وهي إنما تضاف إلى تجاربنا التي تتكاثر مع مرور الأيام والسنوات, ولهذا السبب فنحن حين نختلف حول شأن من شئون الحياة فإننا نتجه نحو كبار السن والمعرفة في أوساطنا حتى نستفتيها بما هو الأجدى والأبقى, فلنحافظ على هذا الوعاء نقياً من كل الشوائب لما فيه راحتنا والتطلع إلى طموحاتنا. إبراهيم الناصر الحميدان