لا يمكن تفكيك التكتلات التي يَجمع الدينُ أفرادها الآن، لأن الدين بكل طوائفه ابن المنطقة، ولا يجدي إنكار هذا التجذر. كما، ولكي لا نكرّس التكتلات الدينية، علينا ألا نخلق تكتلات مضادة. في ملاحظة لأحد الأصدقاء السوريين على الفايس بوك، يشير فيها إلى رحلة سنوية تقوم بها مجموعة أشخاص إلى الشاطئ، للترفيه ونيل متع مشتركة، يتخففون عبرها من أعباء عمل العام. العدد ليس قليلاً وهم بحسب ما يمكن أن يُستنتج، ما يجمعهم هو أن لهم، كان أو ربما لا يزال، اعتقادات يسارية لا دينية. حين كنت في سورية، كنت أعايش هذه التكتلات وكانت أمراً معتاداً من دون نقاش، مثل علاقات كثيرة كنا نقبلها وإن لم نفهمها لكنها كانت تشغلني في شكل غامض. كان سؤالي المباشر والصريح، وربما الفج، للصديق: هل يمكن أن تقبلوا في العام المقبل عائلة نساؤها محجبات؟ أجابني أحد المعلّقين: نعم. إنما أظن، في واقع الأمر، أنهم لا يفعلون، لأنه، ربما، سيكون معوقاً لتلقائيتهم. والأمر طبعاً سأجده هو نفسه في مجموعة أخرى تربطها أو كانت تربطها اتفاقات مغايرة لهذه الاتفاقات. أكاد أرى سكوت كتلة نساء محجبات تدخل عليهن إحدى نساء هذه المجموعة. ما أود الاشارة إليه هو موضوع التكتلات وضرورة تدارسها من جانب المثقفين والناشطين، لأنها وبحسب التجربة والمعايشة، تكرس أزمة العلاقات وتخلق عائقاً أمام تطويرها، وبالطبع هذا لا يكون بمقال أو فكرة تطرح، إنما بمحاولة العثور على سلوك فعلي. كان الأمر الذي نغّص الحياة والظروف، هو أن الذهن الذي لم يكن قابلاً لأي أيديولوجية، ظلّ محتماً على صاحبه أمر القفز من المجتمع إلى تكتل اليسار ومن تكتل اليسار إلى المجتمع. كلمة المجتمع هنا أعني بها الأكثرية المسلمة التي تحيط بنا، ما أوقع هذا القفز أو القذف هو ميل الإنسان الغريزي لأن يكون بين الآخرين. أمر التكتلات لا يبعث عند الآخر على الخيبة والعزلة فحسب، إنما يؤخر مسيرته، حيث إن الإنسان يحتاج عبر علاقته بالآخرين إلى الدعم والدفع. ومعروف عن كل تكتل أن أصحابه يؤدبون بعضهم، ويؤيدون بعضهم، وينبهون بعضهم، ويدعمون بعضهم، ويستنتج المرء أنه إن لم يكن من بينهم ومتكتلاً معهم، فإنه مُتخلّى عنه، شعور غريزي ينشأ عند كل بني آدم يراقب تجمعاً. السؤال: لماذا يجب أن يكون الجامع بين الأصدقاء اعتقادات وأيديولوجيا سابقة أو حالية، والتي بالضرورة تنطوي على مخالفة التكتل الآخر الذي يحمل اعتقاداً آخر؟ أمر الانتماء لمجموعة تحمل اعتقاداً وتاريخاً مشتركاً و «نضالاً» مشتركاً أمر لا يمكن فهمه إيجاباً أو قبوله على أنه صداقات إنسانية بحتة، أمر أجده انغلاقاً يساهم في الانفصال ويدفع الآخر إلى المضي إلى تكتل ما. وهذا طبعاً لا يمشي أبداً على الجمعيات الأهلية التي يمكن أن تربط أصحابها هوايات معينة أو اهتمامات اجتماعية أو نشاطات مشتركة. سألت بعض المعارف من السويديين عن أصدقائهم الذين يقضون معهم أوقاتاً مريحة، كانت الإجابات: أصدقاء الطفولة، أصدقاء الجامعة، أصدقاء العمل. وكلهم على الإطلاق، قالوا إنه ليس شرطاً أن يحملوا اعتقادات وأحكاماً متماثلة. بالطبع لا يمكن مقارنة تاريخ أحدهم بتاريخ ابن منطقتنا، الذي لم يشهد إلا التحزبات والاعتقالات والعنف، والتي بالضرورة رسمت مسيرة حياته وظروفه كلها، إنما توضيح هذه البؤرة في العلاقات أمر ضروري. ما يجدر التشديد عليه أننا نقرأ بتلك الذاكرة المشتركة والتحزّب السابق، امتداداً وتحزّباً حالياً لكنه غير معلن حتى لأصحابه مع أنفسهم. وهو، ومن خلال معايشتي له ومن خلال القفز ذاك أو القذف ذاك، أمر أخطر من التحزبات السياسية المعلنة والتي يكون لها برنامج واضح ومآرب واضحة. والخطورة هنا أن تتسبب هذه الحالات بصنع عامل التمترس الديني من الأطراف الأخرى. أن تكون لتكتل ما متع مشتركة لا تقبل مشاركة من يختلف معها في المعتقد، أجده أمراً يوازي الدرس الديني، هؤلاء يجدون الخلاص والراحة المشتركة بموعظة المعلم أو الشيخ، وهؤلاء في اعتقاداتهم التي تخصهم ولا تخص المجتمع الأكثرية. اذا تأملنا في عدد أفراد «النخبة» التي كانت يوماً يسارية، فإنه عدد قليل في المجتمع السوري، إنما نوعيّ، وذلك لإصراري على أنهم يشكلون الوجه الثقافي أو يساهمون في تشكيله، وفي الوقت نفسه هم منفصلون في شكل قاطع عن «المجتمع الأكثرية». وأعني هنا مجال الفكر والفن والأدب، أي ذلك الدرب الوحيد الذي من المفروض أن يمارس عبره مخاطبة الناس من أجل التفاعل والتحريك وبالتالي التطوير. أمر تمرين هذه التي كانت اعتقاداً وصارت ذاكرة اعتقاد، هو أولوية من أجل أن يحدث هذا التفاعل، طموح كل البشر على هذه الأرض. هذا التكتل، بقدر ما هو إحساس نخبوي، بقدر ما ينضوي على خوف من المجتمع، ووجل أمام كثرته، أحياناً أقرأه ضيقاً وهروباً من أهل الدين التقليديين الذين هم أكثرية المجتمع السوري. بالطبع طرح أمر هذه التكتلات وتفتيتها ومن ثم ادماج الناس الأكثرية مع وفيها، يحتاج دراسات، وربما تدريباً قاسياً، إنما بقناعتي لا سبيل آخر من أجل إبطال عامل اللاعدل الذي يقع نتيجة هذه الانقسامات، ذلك أن الانسان بطبيعته لديه الميل الى التفاعل مع الآخر ومقاسمته متعه وأعياده، إنما ربما يمكن أن يتم هذا من خلال تحويل ذاكرتهم ومعتقداتهم إلى طقوس ثقافية قد يوجد فيها بهجة واهتمام للجميع. لعله لا يفهم أنني أصادر حرية الإنسان باختيار صداقاته وحريته بأن يعيش متعه مع من ينسجم، من دون تحليلات أو تعقيدات، ولا أدعو الى أن تتفكك هذه العلاقات، إنما ما وددت طرحه هو أن نتفكر في أمر التكتلات التي حدثت نتيجة أزمات سياسية وأيديولوجية، تأكد لنا أن هذه الأزمات ساهمت بشدة في ايذاء هذا المجتمع وفي إبهام هويته أو ثقافته أو تكوينه... ربما الأمنية أن تصبح العلاقات أكثر طبيعية، وليست نتيجة لتلك الأزمات، والأمل بجيل قادم، تكون صداقاته مثل بشر الأرض، صديق الطفولة أو الدراسة أو جار البيت أو زميل العمل، ولا يعود هناك مبرر أن يكون صديقه هو من يحمل معتقده الديني أو معتقده اللاديني.