من هم العرب وما هي العربية,, أهي هذه اللغة التي نتحاور بها اليوم في عالمنا العربي والتي نزل بها القرآن الكريم أم أن هناك عربية أخرى سبقت ذلك,,؟ يقول الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه: قيل ان جميع العرب ينتسبون إلى اسماعيل بن إبراهيم عليه السلام, والمشهور ان العرب العاربة قبل اسماعيل وهم عاد وثمود وطسم ،جديس وأميم وجرهم والعماليق وأمم آخرون لا يعلمهم إلا الله كانوا قبل اسماعيل عليه السلام وفي زمانه ايضا، فأما العرب المستعربة وهم عرب الحجاز فمن ذرية اسماعيل عليه السلام، وأما عرب اليمن وحمير فالمشهور انهم من قحطان واسمه مهزم قاله ابن ماكولا وهو علي بن هبة الله بن جعفر وهو أمير مؤرخ من العلماء والحفاظ توفى سنة 486ه وفي الصحاح للجوهري أول من تكلم بالعربية يعرب بن قحطان ويقول السيوطي في المزهر في علوم اللغة ص33 الجزء الأول: (واخرج الحاكم في المستدرك وصححه,, والبيهقي في شعب الايمان من طريق سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا (قرآنا عربيا لقوم يعلمون) ثم قال: (الهم اسماعيل هذا اللسان العربي الهاما) ويقول ابن جنى في الخصائص سواء كانت اللغة توقيفا أو تواضعا (فإن اللغة لم توضع كلها في وقت واحد بل وقعت متلاحقة متتابعة) ولغة اسماعيل عليه السلام هي لغة القرآن الذي نزل به على سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم,, اما لغة حمير أو لغة يعرب بن قحطان ففيها اختلاف عن لغة اسماعيل عليه السلام,, كما ورد في كثير من المراجع,. كيف بدأ الشعر لدى العرب يقول ابن رشيق في العمدة (كان الكلام كله منثوراً فاحتاجت العرب إلى الغناء,, بمكارم اخلاقها وطيب اعراقها وذكر ايامها الصالحة وأوطانها النازحة وفرسانها الأمجاد وسمحائها الأجواد لتهز انفسها إلى الكرم وتدل ابناءها على حسن الشيم فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام فلما تم لهم وزنه سموه شعراً لأنهم شعروا به أي فطنوا) ص20 وقد سبق لي ان خضت في هذا الموضوع وكان لي اجتهاد ذكرته في صحيفة المدينة قبل خمسة عشر عاما فقد كان تصوري وتقديري ان الشعر بدأ بالسجع الخفيف ثم تطور من السجع الى الرجز واستمر ذلك لفترة كافية لترسخ الاراجيز حتى تصبح فنا مستقلا بذاته ثم تعددت بعد ذلك الموازين وتبحرت حتى وصلت إلى هذه البحور التي نراها الآن في اشعارنا وهذا تصور اجتهادي شخصي محض لا سند له وهو وان كان لا يرتكز لمرجع من المراجع ولكنه يتمشى مع المنطق,, ولقد اصبح الشعر مع الوقت سمة من سمات العرب وسجيه من سجاياهم حتى قيل (لا تدع العرب الشعر حتىتدع الابل الحنين) وقد كان البدوي يقول الشعر بفطرته وطبعه بدون تدقيق او تمحيص للعبارات او انتقاء للمفردات اللهم إلا بعض كبار الشعراء من امثال زهير بن ابي سلمى الذي كان يقول القصيدة ويمحصها ويراجعها ولا يخرجها إلا بعد حول كامل لذلك سميت قصائده الحوليات واستمر ذلك سائدا حتى ظهور الاسلام واستقراره وقد رافق ذاك شيئان في حياة أهل الحجاز بالذات وأهل مكةوالمدينةالمنورة اللتين رحلت عنهما الخلافة الى الشام ثم إلى العراق,, ولكن الخلفاء سواء الامويين او العباسيين كانوا يخصون وجهاء مكةوالمدينة بالهبات والعطايا لالهائهم عن التطلع إلى الخلافة فظهر الثراء وتلا ذلك موجة من الترف عمت المدينتين استوجبت وجود اللهو والغناء على رأس الملاهي لملء الفراغ الكبير الذي احاط بأهل مكةوالمدينة فنبغ هناك عندئذ شعراء في مكة كعمر بن أبي ربيعة والحارث بن خالد المخزومي والعرجي بالطائف والاحوص وجميل في المدينة وظهر المغنيون والمغنيات ايضا في مكةوالمدينة بينما انشغل الشام بالفتوحات خاصة في عهد عبدالملك الذي رسخ الخلافة في الشام وقضى على كل مناوئيه، من جهة اخرى ظهر في الحجاز اعلام الفقهاء الذين تفرغوا للبحث والفتوى والحديث,, وكل ذلك يصب في وعاء اللغة والشعر,, فاثروا اللغة اثراء وزادوها ترفا فظهر عندئذ المولدون الذين ولدوا الكلام وادخلوا البديع واكتشفوا حلاوة المحسنات اللفظية التي زادت الشعر جمالا وترفا,, ظهر كثير عزة الذي اكتشف بتائيته المشهورة اللزوميات او لزوم مالا يلزم في القافية,, وهو الالتزام بحرفين بدلا من حرف واحد,, هو حرف الروي (القافية التي تبنى عليها القصيدة) وحرف الدخيل (الذي قبل القافية) في تائيته الرائعة التي مطلعها وبعض من أبياتها: خليلي هذا ربع عزه فاعقلا قلو صيكما ثم ابكيا حيث حلَّتٍ وما كنت أدري قبل عزة ما البكا ولا موجعات القلب حتى تولَّتِ وكانت لقطع الحبل بيني وبينها كنا ذرة نذراً فأوفت وحلَّتِ فقلت لها ياعز كل مصيبة إذا وطنت يوما لها النفس ذلَّتِ فان سأل الواشون فيم هجرتها فقل نفس حر سلِّيت فتسلَّتِ وهي 46 بيتا التزم فيها باللام دخيلا والتاء قافية وقال الأحوص لاميته الطويلة المشهورة التي حفظها حتى الخلفاء ومطلعها: يا بيت عاتكه الذي اتعزل حذر العدى وبه الفؤاد موكلُ وتجنبي بيت الحبيب أوده أرضي البغيض به حديث معضلُ ولئن صددت لأنت لولا رقبتي أهوى من اللائي أزور وأدخلُ اودى الشباب واخلفت لذاته وانا الحزين على الشباب المعولُ ووعدتني في حاجتي وصدقتني ووفيت اذ كذبوا الحديث وبدلوا واراك تفعل ما تقول وبعضهم مذق اللسان يقول مالا يفعلُ ولهذه القصيدة وهذا البيت الأخير قصة روتها كتب التراث فلقد جاء الخليفة يزور المدينة في طريقه للحج فاختير له شاب من مثقفي اهل المدينة ليوقفه على الآثار ويحدثه بالأخبار فاعجب الخليفة بالشاب ثقافة وأدبا واطلاعا فأمر له بصلة ولكن وزيره لم يعطه ما أمر به,,, وعندما خرج مع الخليفة في احدى جولاته وقف به الفتى امام دار من دور المدينة وقال له يا أمير المؤمنين هذا بيت عاتكة الذي قال فيه الأحوص (يا بيت عاتكة الذي اتعزل) وعجب الخليفة فلم يكن الشاب يتكلم إلا ان سئل وقرأ القصيدة في سره حتى وقف على البيت: واراك تفعل ما تقول وبعضهم مذق اللسان يقول مالا يفعلُ فمال على وزيره وسأله ان كان قد أعطى المديني صلته فاعتذر الوزير ببعض مشاغل شغلته فقال له عجِّل له بالصلة, أرأيت كيف كان اهتمامهم بالشعر والشعراء، ثم جاءت رائية عمر بن ابي ربيعة وكانت جديدة في بنائها وأسلوبها القصصي العجيب: أمن دار نعم أنت غاد فمبكر غداة غد أم رائح فمهجر تهيم إلى نعم فلا الشمل جامع ولا الحبل موصول ولا القلب مقصر اشارت بمدراها وقالت لاختها أهذا المغيري الذي كان يذكر أهذا الذي اطريت نعتا فلم أكن وعيشك، انساه إلى يوم أقبر فقالت نعم لاشك غير لونه سرى الليل يحيى نصه والتهجر وبت اناجي النفس اين خباؤها وكيف لما آتي من الامر مصدر فدل عليها القلب ريا عرفتها لها وهوى النفس الذي كان يظهر فحييت إذ فاجأتها فتولهت وكادت بمخفوض التحية تجهر فقالت وعضت بالبنان فضحتني وانت امرؤ ميسور امرك اعسر فوالله ما أدري اتعجيل حاجة سرت بك أم قد نام من كنت تحذر فقلت لها: بل قادني الشوق والهوى اليك وما عين من الناس تنظر والقصيدة طويلة 63 بيتاً وهي من روائع تراثنا ولها هي ايضا قصة في تراثنا العظيم فلقد كان ابن عباس يتحدث على عادته في الحرم المكي وحوله الناس عندما جاء ابن أبي ربيعة فسأله ابن عباس هل من جديد قال نعم وألقى القصيدة الرائية بكاملها فغضب بدوي من الجالسين وقال يا بن عباس نحن نقطع اليك أكباد الابل لنسمع منك أحاديث رسول الله ثم يأتيك فتى من مترفي قريش يقول لك: رأت رجلا أما إذ الشمس عارضت فيخزي واما بالعشي فيخسر فقال ابن عباس ما هكذا قال,, قال أو تحفظ ما قال ايضا قال نعم وان شئت اسمعتك القصيدة بكاملها قال: نعم فأعاد بن عباس القاء القصيدة بكاملها,, وقد كان رضي الله عنه سريع الحفظ,. وابن أبي ربيعة أجاد وأبدع فقد كان الحب والنساء ديدنه في شعره: قلن يسترضينها: منيتنا لو اتانا اليوم في سر عمر بينما يذكرنني ابصرنني دون قيد الميل يعدو بي الأغر قالت الكبرى اتعرفن الفتى قالت الوسطى نعم,, هذا عمر قالت الصغرى وقد تيمتها قد عرفناه وهل يخفى القمر ثم جاءت دالية جميل: الا ليت ريعان الشباب جديدُ ودهراً تولى يا بثين يعودُ إذا قلت مابي يابثينة قاتلي من الحب قالت: ثابت ويزيدُ وان قلت ردي بعض عقلي اعش به تولت وقالت: ذاك منك بعيدُ فلا أنا مردود بما جئت طالبا ولا حبها فيما يبيد,, يبيدُ وافنيت عمري بانتظاري وعدها وابليت فيها الدهر وهو جديدُ وقد تلتقي الأشتات بعد تفرق وقد تدرك الحاجات وهي بعيدُ علقت الهوى منها وليداً فلم يزل إلى اليوم ينمى حبها ويزيدُ وتلى ذلك روائع القيسين قيس ليلى (المجنون) وقيس لبنى,. واشترك حتى الخلفاء في هذه الوليمة الرائعة فتغنى المغنون بقصيدة الخليفة يزيد بن معاوية: وامطرت لؤلؤا من نرجس وسقت وردا وعضت على العناب بالبرد أرأيت كيف ابدع في هذا البيت فأجاد، ثم جاء صاحب فوز العباس ابن الأحنف وتوالى الشعراء بروائعهم في المشرق والمغرب. ثم جاء بشار بتوليداته العجيبة وتلاه مسلم بن الوليد مبتكر البديع وصاحب مدرسة صناعة الشعر وأبو نواس في جمرياته وأبو العتاهية في زهدياته ثم جاء ملك البديع ابن المعتز الذي رسخ فن البديع في الشعر وتلاه الثالوث المعروف أبو تمام والبحتري والمتنبي,, ولو ان أبو فراس جاء في زمن غير زمن المتنبي لكان له شأن آخر لكن عبقرية المتنبي القت عليه بظلها ومع ذلك فإن رائيته تعد أروع روائع تراثنا الشعري: اراك عصى الدمع شيمتك الصبر اما للهوى نهي عليك ولا أمر ثم نام الشعر نومة أهل الكهف واطال عندما ساد حكم الترك دولة الاسلام وأصبح العرب تبعا بعد ان كانوا على رأس القيادة,, ومرت خمسة قرون أو أكثر أصاب الشعر جمود وانحلال إلا من بعض الفلتات هنا وهناك واضمحل دوره وتراجع القه وقل اهتمام الناس به فقد كان العرب مكروبين بأحوالهم وهمومهم الكبرى,. ومع ان أبا تمام قد اتجه بشعره وفنه وطاقته كلها إلى البديع والتصنيع إلا انه تجاوز طبعه وفطرته وراح يمارس صناعة البديع حتى افرط وعندما افرط كثر تكلفة ومج كثير من شعره لوضوح التكلف والصنعة فيه ثم جاء العبقري المتنبي الذي سار مع طبعه وفطرته فجاء شعره في اكثره مطبوعا لا تكلف فيه إلا في القليل الذي اضطر اليه اضطراراً وساقته اليه رغبة المديح طلبا للصلة,, فقد كان الشعر هو مصدر رزقه الوحيد ولم يكن يعينه طبعه لمدح اشخاص كان يؤمن في قرارة نفسه بأنهم ليسوا أهلا لمديحه فكان يقول من وراء طبعه شعراً ممجوجا متكلفا لا روح فيه ولا حس، وكان ذلك يرضي الممدوح طالما انه صادر من المتنبي,, او متوجا باسمه الكبير. لقد كانت العرب تتذوق البديع عندما كانت القصيدة بكاملها يتخللها بيت او بيتين من البديع الذي كان يأتي بقوة الطبع وفطرة الملكة بلا تكلف او افتعال فلما فاض وزاد ودخل عليه التكلف والتصنع وأدخلت عليه مفردات جافة خاصة في شعر أبي تمام لم يستسغه الناس وان كان الجيد من السهل الممتنع يكاد يخلب عقول الناس بحلاوته وطلاوته حتى في شعر أبي تمام,. ولقد أدرك اكثر الشعراء ان للشعر لغة خاصة وان المفردة الجافة الجافية إذا جاءت في البيت اذهبته واضاعت طلاوته ورونقه ولا يجدي في الشعر شهرة الشاعر ايا كان إذا لم يحسن اختيار المعنى وصياغة المبنى فهذا الاعشى يقول: وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني شاو مشل شلول شلشل شول وقد كان في إمكانه الاستغناء بواحدة من هذه المفردات الاربعة فمعناها جميعها واحد. ويقول جرير في قصيدته: بان الخليط برامتين فودعوا او كلما جدوا لبين تجزع أرأيت حلاوة المطلع,, ثم قال في نفس القصيدة: وتقول (بوزع) قد دببت على العصى هلا هزئت بغيرنا يا بوزع فافسد القصيدة بهذا البيت لاحتوائه على هذه المفردة (بوزع) الشاذة,. وأنشد رجل الخليل ابن أحمد (ترافع العز بنا فارفنععا) فقال ليس هذا شيئا قال كيف جاز للعجاج ان يقول (تقاعس العز بنا فاقعنسسا) ولا يجوز لي، وهو تكلف لا معنى له والشعر في غنى عنه وهكذا بدأ الشعراء يدركون حلاوة السهل الممتنع الذي يأتي مع الطبع وبالفطرة وبلا تكلف وبدأوا يكثرون من ترديد المفردات الشاعرية التي كانت في بدايات تسلل البديع إلى الشعر العربي تأتي بين الفينة والأخرى في شعر هذ الشاعر أو ذاك غير مقصودة لحسنها ولكنها تساقطت على مخيلة الشاعر بحكم طبعه وفطرته فكان لها حلاوة وطلاوة لا يطاولها أي حلاوة ولاتبزها اي طلاوة: فعرف الشعراء بسليقتهم (الترصيع) كقول ابي صخر الهذلي: سود ذوائبها بيض ترائبها محض ضرائبها صيغت على الكرم لاحظ انه في البيت (ذوائبها، ترائبها، ضرائبها) كيف أنهى الثلاث كلمات بالحروف ب,ه,أ, في الثلاث المفردات على التوالي وهذا هو الترصيع وما أحلاه إذا كان على البديهة وبلا تصنع,. ومنهم أبو المثلم وقد قال: حامي الحقيقة نسَّال الوديقة معتاق الوسيقة جلد غير ثنيان رباء مرقبة مناع مغلبة وهاب سلهبة قطاع اقران هباط اودية حمال الوية شهاد اندية سرحان فتيان وأنت تلحظ كيف استعمل في البيت الاول المفردات (الحقيقة، الوديقة، الوسيقة) وهي على وزن واحد لا تختلف وتلاها في الثاني بالمفردات (مرقبة، مغلبة، سلهبة) ايضا على وزن واحد تلتها في البيت الثالث وعلى وزن واحد المفردات (أودية، الوية، اندية) ثم انظر كيف قسم البيت باستعماله اربع مفردات على وزن (فعال) وهي رباء، مناع، وهاب، قطاع، ولم يتوقف بل استمر في البيت الثالث هباط، حمال، شهاد، سرحان، مما أضاف الموسيقى الداخلية وهي موسيقى اللفظ على الموسيقى الخارجية وهي موسيقى الوزن وكما قلت فان البيت او البيتين في القصيدة من فن البديع وعلى الفطرة لها في القلب حلاوة وفي السمع طلاوة ولو ان مقطوعة ابي صخر الهذلي تكاد تحس فيها الطبع والصنعة مع عدم التكلف على رغم كثرة الابيات في قطعته ثم اكتشفوا خلال رحلتهم مع الشعر التقسيم واستظرفوه ومنه على سبيل المثال قول بشار وقد استوفى كل التقسيم الممكن,. يتبع