من خلال لقائي شخصياً وهاتفياً بعددٍ من الناس مختلفي الاتجاهات والمستويات الثقافية والعلمية والاجتماعية تأكد لي وجود مشكلة عند كثير منهم في التعامل داخل الأسرة، ولأنني التقي بهم في دورة عن فنِّ التعامل فإنَّ بعضهم يقترب مني أكثر ويبوح لي بمعاناةٍ حقيقيةٍ في العلاقة العائلية، وأجد عندهم من القلق وعدم الاستقرار النفسي ما يختفي وراء قشرةٍ رقيقةٍ من التظاهر بالهدوء وراحة البال، وهؤلاء جميعاً يشكون من الإهمال العائلي المتبادل بين أفراد العائلة، وعدم استخدام أخلاق التعامل الراقي التي يستخدمونها خارج منازلهم، فكثيراً ما تختفي البشاشة، واللُّطف والابتسامات ورقة الكلمات عند بعضهم حينما يدخل إلى منزله، ولربما تحوَّلت هذه السِّمات الجميلة إلى تجهُّمٍ وتقطيبٍ للجبين وقسوةٍ في الكلمات عند بعضهم حينما يجلس في بيته، بين أهله. وهنالك أنواع من الإهمال العائلي، وصور متعدِّدة لهذا الجانب السلبي من حياة الناس، فمنه ما هو مرتبط بالقسوة على الأهل قولاً وعملاً، ومنه ما هو مرتبط بالبخل العاطفي والشحِّ الوجداني، والجفاف الروحي، ومنه ما هو مرتبط بالبخل المادي الذي تكشَّف لي من صوره القاتمة ما لم أكن أتوقع وجوده، ومن الإهمال العائلي ما هو مرتبط بالانشغال الحقيقي والوهمي ونقصد بالحقيقي الأعمال والوظائف التي تستغرق أوقات بعض الناس كلّها، وبالوهمي مايتوهمه الناس من الانشغال مع أنهم غير مشغولين حقيقةً، وإنما هم منشغلون نفسياً. وهذا الإهمال العائلي الذي يحمل عبئه ومسؤوليته الرجال والنساء جميعاً له أبعاده السلبية في نفوس أفراد العائلة وبخاصَّة الشباب منهم ذكوراً وإناثاً، وهو السبب المباشر في حدوث كثير من المشكلات الاجتماعية المتعلِّقة بالسلوك والأخلاق التي انتشرت في المجتمع، وأصبحت من الظواهر التي تستحق الاهتمام. ومع أننا لا نملك دراسات دقيقة وإحصاءات واضحة عن نسب تلك المشكلات لعدم وجود مراكز متخصِّصة في هذا الجانب، إلاَّ أننا نشعر بأنها أصبحت ظاهرة تلفت النظر. لقد أصابتني الدَّهشة حيما حدَّثني رجل أعمالٍ عن انشغاله الكبير بأعماله وتجارته حديث منْ يحاول تصوير أسباب نجاحه التجاري مفتخراً بهذا النجاح، أدهشني حينما روى لي إحدى قصصه التي تدل على إهماله العائلي الكبير، وإخفاقه في هذا الجانب مقابل نجاحه في الجانب التجاري، حيث قال: لقد كنت في دُبي مشغولاً ببعض الاجتماعات المهمة مع شركات عالمية، فحصل لي شغل طارئ في الرياض - حيث يسكن أهله - فسافرت على عجل واتجهت إلى مكتبي في الشركة في الرياض حيث كان الاجتماع الطارئ المهم، وحينما انتهيت من الاجتماع اتجهت من المكتب إلى المطار عائداً إلى دبي، ولم أستطع رؤية أهلي وأولادي مع أنني غائب عنهم أكثر من شهر، وختم قصته هذه مبتسماً قائلاً: (وش نسوي عمل مرهق؟). أنموذجٌ لا يدلُّ على نجاح أبداً، فالإخفاق في علاقة هذا الرجل بأهله ينسف نجاحه التجاري الذي أصبح وبالاً عليه. وهنالك نماذج أخرى ليست مشغولة تجارياً، ولكنَّها مصابة بداء الأصحاب و(الشلّة) حيث تقضي معظم أوقاتها معهم في اجتماعات يومية لا تنقطع، تبدأ بعد العشاء ولا تنتهي إلا بعد الفجر، وهذا داء خطير موجود في المجتمع، وهو داء حتى وإنْ كانت الرِّفقة صالحة لأنه سبب من أسباب الإهمال العائلي الذي لا يجوز شرعاً، وقد قال لي أحدهم حينما نصحته: نحن - والحمد لله - مجموعة طيبة نستفيد من وقتنا ولسنا من أصحاب (المعسّل) والبلوت وغيرها من الأشياء السيئة. قلت له: لو كانت اجتماعاتكم هذه التي تصرفكم عن القيام بواجبكم الشرعي في بيوتكم اجتماعات قراءة قرآن لكانت خطأ، فكيف بها وهي اجتماعات (سواليف). إنَّ الإهمال العائلي مشكلة اجتماعية تحتاج إلى التفاتٍ من الجميع خاصةً في هذا الوقت الذي تعظم فيه مسؤولية الآباء والأمهات. إشارة يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي).