في إطار حراك ثقافي ملحوظ تشهده محافظة الطائف هذه الأيام، نظم قسم اللغة العربية بكلية المعلمين بالطائف محاضرة بعنوان: (بنية القصيدة في الشعر العربي المعاصر) للدكتور فوزي خضر الشاعر والناقد المعروف وعضو هيئة التدريس بالكلية وذلك مساء يوم الأحد الموافق الثاني عشر من شهر ذي القعدة بإحدى قاعات الكلية. حظيت المحاضرة بحضور نوعي ضم نخبة من المهتمين والمتخصصين ومن بينهم عميد الكلية الدكتور علي الحارثي ووكيليها الدكتور عبدالرحمن الأختر والدكتور محمد الجودي ورئيس قسم اللغة العربية الدكتور بريكان الحارثي ورئيس نادي الطائف الأدبي الدكتور جريدي المنصوري وعدد من أعضاء هيئة التدريس بالكلية والدكتور عايض الزهراني عضو مجلس إدارة نادي الطائف الأدبي والأستاذ راشد الغامدي مشرف النشاط الثقافي بالكلية والأستاذ طلق المرزوقي رئيس لجنة إبداع بنادي الطائف الأدبي وجمع من أعضاء هيئة التدريس بالكلية. في البدء كانت الكلمة للدكتور مجاهد أحمد مقدم الأمسية، الذي رحب بالحضور وعرف بالمحاضر، وذكر أن له مؤلفات تزيد على الخمسين كتاباً، منها اثنا عشر ديوان شعر، وأنه حصل على جائزة الدولة في الشعر وجوائز أخرى في المسرح والإخراج، كما أن له نتاجاً شعرياً متميزاً شهد له نقاد ومبدعون كثر بالتميز فيه ومنهم محمود درويش وصلاح عبدالصبور ونجيب محفوظ وعبدالقادر القط وأمل دنقل وعبدالمعطي حجازي وفوزي سعد عيسى ويعمل حالياً أستاذاً للأدب والنقد بكلية المعلمين بالطائف. استهل المحاضر ورقته بمدخل تاريخي لتطور بنية القصيدة العربية وذكر (أن أول ما قاله العرب من شعر تلك الأرجوزة الصغيرة التي قالها -دويد بن زويد- لأولاده حين أوشك على الوفاة واستهلها بقوله: اليوم يبنى لدويد بيته. وواصل عرضه التاريخي لتطور القصيدة العربية حتى العصر الحديث مشيراً لمدرسة الإحياء والكلاسيكية والرومانسية ويقول:- (يبدأ القرن العشرون بموجة من الشعراء الموهوبين أصحاب الرؤية الأدبية فتظهر مدرسة الأحياء على يد محمود سامي البارودي الذي يعود بالقصيدة إلى أزهى عصور قوتها، ثم تجيء المدرسة الكلاسيكية فتحدث تطويراً في استخدام اللغة وفي الأغراض، ولكن لا يحدث تطور يذكر في بنية القصيدة بكل عناصرها، ويسهم شعراء المهجر بعطاء في هذا المجال متجهين إلى الأوزان القصيرة والتبسط في استخدام اللغة وفي الوقت نفسه تظهر لديهم الملامح الطويلة مثل ملحمة الطيارة للشاعر فوزي المعلوف، وقصيدة المواكب لجبران خليل جبران). وتحدث المحاضر عن البنية في قصيدة التفعيلة، وتطرق بعد ذلك لبنية القصيدة المعاصرة وفي هذا الصدد قال: (إن كثرة الشعراء وتنوعهم وقوتهم أدت إلى ظهور مدارس واتجاهات مختلفة في القصيدة العربية المعاصرة، فرأينا القصيدة الرمزية والقصيدة الواقعية والقصيدة الحالة والقصيدة الكونية وغير ذلك من الاتجاهات المتنوعة. وأرى أن القصيدة الحالة حين تصل إلى قمة نضجها وإلى أقصى تطورها فإنها تصل إلى ما يمكن أن نطلق عليه - القصيدة العالم- حيث يكون للقصيدة عالمها الخاص الذي يبتدعه الشاعر موازياً للواقع المعيش، لكنه يبنى بمكونات مختلفة، وله منطقه المختلف عن منطق الواقع). ويضيف المحاضر قائلاً: (تحشد كل إمكانيات الفكر والشعور، فيعيش الشاعر حالة الشعر، حيث تتحول الأماكن والأشخاص ومجريات الحوادث والسلوكيات والتصرفات اليومية إلى حالات شعورية يستقبلها الشاعر ويعايشها بمشاعر ملتهبة، وتتحول مفردات الحياة إلى دفقات شعورية تتجمع في النهاية بتراكماتها، وتستدعي ما يشابهها من ذاكرة الشاعر في أيامه أو سنواته السابقة، وتشاغله القصيدة فيطردها، وتحاصره فيهرب منها، فإذا وصل إلحاحها عليه إلى أقصى مداه: يجلس لكي يتأهب للكتابة. يحيط به الجو العام للقصيدة، فيستغرق في معايشته وحده بعيداً عن أي مؤثرات خارجية، وتحشد كل طاقاته في لحظة واحدة، فتتفجر قدرته الإبداعية منطلقة من موهبته وقدرته على التخيل، وتتجمع خبرته المعرفية كاشفة في داخله كل ما عايشه وكل ما سمعه أو رآه أو قرأه في إطار هذا العالم المتخيل الذي يحيط به في تلك اللحظات، وتحضر ذاكرته الانفعالية فتستحضر الانفعالات المشابهة التي مر بها من قبل أو رأى غيره يمر بها فانفعل لها بكل مشاعره. عندها يبدأ الشاعر في رسم عالمه بكلماته، يرسم مكوناته ويبسط مساحاته، ويملأ فراغاته، ويضع أحجاره حجراً حجراً حتى يكتمل البناء مكوناً عالماً خاصاً بتجربة هذه الحالة الشعرية، وهذا عالم يختلف عن العالم المحيط بنا). وبعد هذا العرض التاريخي والتعريف بالقصيدة العالم، قدم المحاضر نموذجاً لها وهو قصيدة (حكاية المدينة الفضية) للشاعر أمل دنقل. وكذلك قصيدة لأدونيس. المداخلات والتعليقات: - د. علي الحارثي: رحب بالحضور وأبدى ارتياحه لما سمعه وقدم شكره لقسم اللغة العربية وتساءل عن الغاوين الذين يتبعون الشعراء قائلاً: هل الغاوي هنا غاوي المعرفة أم هو التائه؟ ومن بدأ الحكاية؟ وذكر أن الشعراء لا يخضعون للتصنيف بل هم مواهب تبدع وعلى الآخرين التفسير والتعب، مؤكداً أن الأدب حق للجميع وليس قصراً على المتخصصين في اللغة. - د. جريدي المنصوري: أبدى سعادته بوجوده في هذه المناسبة وشكر عميد الكلية ورئيس قسم اللغة العربية، وأشار إلى أن كلية المعلمين تستقطب المتميزين في العالم العربي، وأن المحاضر قدم محاضرة مستفيداً من كونه شاعراً وناقداً في الوقت نفسه حاول تقريب المعرفة للأذهان ووفق في اختيار النماذج، وأشار إلى أن السردية التي تظهر في القصيدة العالم متمثلة في القول (قالت وقلت) تمثل مستوى من مستويات ترابطها وتحقق الدهشة للمتلقي. - د. عبدالرحمن الأختر: ذكر أن القصيدة العالم هنا بمثابة منظر رسمه رسام وترك الآخرون يبحثون في تفاصيله. - د. عالي القرشي: أشار إلى أن المحاضر خير من يتكلم في هذا الموضوع بحكم معايشته للقصيدة نقداً وإبداعاً، وتساءل عن الغائب في المحاضرة والمتمثل في عدم تطرق المحاضر لأنماط أخرى مختلفة من البناء في القصيدة الحديثة. وأضاف أن الشاعر لم يتطرق لما لدى الشعراء السعوديين من تميز في هذا ومن ذلك القصيدة التي تمزج في بنيتها بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة والشعر الشعبي كما هو عند الشاعر علي الدميني وسعد الحميدين، وكذلك القصيدة التي تتفاوت أنظمة بنائها كما هو عند الشاعر محمد الثبيتي، ولاسيما أن المحاضر له مؤلف سابق عن الشعر السعودي. - د. بريكان الشلوي: شكر عميد الكلية على دعمه وتشجيعه لفعاليات القسم المختلفة، وتساءل عن دور الأديب في الحراك الاجتماعي وهل هو فاعل فيه أم تابع له! ويرى أنه مجرد تابع لأنه يتحدث عادة بعد الأحداث. وأشار إلى أن الناقد الفذ مشروع شاعر متميز في المستقبل. وتساءل الشلوي أيضاً عن قصيدة النثر والأجناس الأدبية الأخرى وقال إنه يرى أن القصيدة العالم أقرب ما تكون للقصة وأنه في إرباك من كثرة المسميات والمصطلحات. - د. محمد عبدالله: ذكر أن المجتمع العربي مدرب على شعر الإنشاد وعلى أن أول ما في القصيدة هو الوزن والقافية وأن كلاً من خصائص القصيدة تحقق موسيقى عالية وأن الصوت يرتبط بالدلالة وأن تتابع القوافي عند كثير من الشعراء المحدثين يعوض عن القافية بوضعها التقليدي، وأن أمل دنقل يستعيض بالجناس الكثيف ليعوض ما اعتادته الأذن العربية في الشعر العمودي، وتحدث أيضاً عن كسر حدة الإيقاع والتعويض عن وحدة القصيدة بتكرار بعض الكلمات أو الجمل. - د. عاطف بهجات: نفى في مداخلته أن يكون في العملية الإبداعية تبعية! وأشار إلى أنه منطقي أن يأتي النقد بعد الشعر لأن بضاعة الناقد هي الشعر. وقال إن بنية القصيدة في شعر التفعيلة تحكمها الدفقة الشعورية بينما في القصيدة التقليدية يحكمها الفن والصنعة. وذكر أن علي محمود طه كان إرهاصة لبداية شعر التفعيلة باعتراف صلاح عبدالصبور في كتابه (حياتي في الشعر)، وأشار إلى أنه من المهم أن نفصل بين الشكل والمضمون عند دراستنا للقصيدة. - د. عبدالله إدريس: أشار إلى أن مطاردة القصيدة للشاعر ومحاصرتها له أمر معروف منذ القدم في الشعر العربي، وليس خاصاً بالقصيدة العالم موضوع المحاضرة. - د. عمر الشيخ: تساءل عن المقصود ببنية القصيدة هل هي الإيقاعية أم الصرفية أم الصوتية وتساءل أيضاً عن أثر البنية على المعنى. - د. محمد حامد: أشار إلى أن عبارات من قبيل (أول ما سمعنا وأول ما قاله العرب من شعر تفتقد للعلمية) وكذلك قولهم (أمدح بيت وأهجى بيت ونحو ذلك) وذكر أن الناقد الذي يتعاطى الشعر هو بصير به لأنه عرفه جيداً. - عبدالرحمن الطلحي: تطرق إلى أن القصيدة العالم لم تصل إلى ما وصلت إليه لأنها قصيدة تفعيلة بل لاتكائها على التوظيف الأسطوري والخرافي وأن حصر تميزها في بنيتها يفوت تنويع الاختيارات. وذكر أيضاً أن القصيدة الحديثة تحضر الوزن والقافية وأن لها تدفقاً إيقاعياً يوازي التدفق الدلالي (البنية الإيقاعية). وتطرق لغياب قصيدة النثر عن موضوع المحاضرة، ووصفها -أي قصيدة التفعيلة- بأنها خرجت من الشكل إلى اللا شكل. وأشار الطلحي إلى أن هرمونية الأفكار هي الأهم في القصيدة الحديثة، وقال: (كنت أتمنى أن يكون عنوان المحاضرة القصيدة العالم). - د. محمد الجودي: أشار إلى أنه من المهم أن ندع الشاعر يبدع ويحلق في عالم بلا قيود ودون أن يكفه النقد. وفي ختام الأمسية فاجأ الدكتور فوزي الحضور بعدم الرد على استفساراتهم ومداخلتهم واكتفى بالقول: (لقد استفدت من كل ما قيل ودونته وهذه فكرة هذا السمنار التحاوري).