صلاح عبدالصبور (1931-1981) من الأصوات البارزة في المشهد الشعري المعاصر ومن أهم رواد حركة الشعر الحر, أول مجموعاته الشعرية (الناس في بلادي 1957)التي ما تزال تستحوذ على اهتمام القراء والنقاد وإلى يومنا هذا يرون فيها نصا متجددا مليئة بالمشاهد والصور والمفردات المحكية في الشارع العربي, وقد خصها الدكتور حافظ المغربي أستاذ النقد الأدبي المشارك بجامعتي المنيا والملك سعود بدراسة مستفيضة في كتابه (صلاح عبد الصبور الشاعر الناقد -دراسة ومختارات). قصيدة (الناس في بلادي) تستفتح بمشهد تصويري لطبيعة الناس في أوطانهم, تحمل قسماته من البدء ما ينطق بوضعية واقعهم, معتمدا منذ البدء على صراع الأضداد ولغة المفارقة. الناس في بلادي جارحون كالصقور غناؤهم كرجفة الشتاء في ذؤابة الشجر وضحكهم يئز كاللهيب في الحطب خطاهم تريد إن تسوخ في التراب ويقتلون، يسرقون، يشربون يجشأون لكنهم بشر وطيبون حين يملكون قبضتي نقود ومؤمنون بالقدر وينتقل الشاعر إلى مشهد حكائي على لسان شخصية (عمي مصطفى) الذي يبدو في ظاهره رمزا له جانبه الطيب, بدءا من اسمه الذي يوحي بالصفاء والطيبة والاصطفاء, وقد وحد الشاعر سميّه بسمي (المصطفى عليه الصلاة والسلام حبا واقتداء), ليخلع عليه دلالات روحانية وكأنه قطب صوفي يلتف حوله مريدوه من الرجال -ويعلق المؤلف على هذا المشهد ويقول-: ولكننا مع تنامي درامية الأحداث, سنكتشف - في خطاب مسكوت عنه -أنه صورة ورمز من رموز التواكل, إذ يجتر-دون فعل إيجابي للخلاص من الفقر والعدم- ذكريات فيها من الانكفاء على الماضي مالا يعتني بالحاضر, أو يستشرف رؤية للخلاص في المستقبل. يقول عبد الصبور: وعند باب قريتي يجلس عمي مصطفى وهو يحب (المصطفى) وهو يقضي ساعة بين الأصيل والمساء وحوله الرجال واجمون يحكي لهم حكاية......تجربة الحياة ويسهب المؤلف في شرح أبيات القصيدة كاملة ويتوصل في دراسته عنها إلى قوله: قد جاءت القصيدة على مستوى الرؤية والأداة الفنية؛ صورة صادقة مع فكره وفنه وفي الشطر الآخر من كتابه يقوم بدراسة تحليلية لقصيدة (أغنية الشتاء) الذي سعى الدكتور المغربي إلى استنطاق مفرداتها الشعرية وفق مفهوم الذات, ناظرة، ومنظوراً فيها حول رؤيتها للعالم من خلال قضية كبرى أرّقت صلاح عبدالصبور تحت وطأة الزمن الذي لم يمهله في حياته أكثر من نصف قرن، هو كل ما عاشه في الدنيا، وأعني (قضية الموت). يشير المؤلف في مقدمة كتابه الى التحولات الفكرية وتباين وجهاته الايدلوجية في مراحل حياته من حالة الإسراف في التدين والمبالغة في العبادة، إلى حالة الإنكار - الرفض أو ما يمكن أن يعده البعض عبثية ويؤكد الدكتور حافظ المغربي على أن التذرع بالتوجه الايدولوجي وجعله سبيلا أوحد لتحليل النص قد يكون مضللا وبالتالي فإنه سيقع ومعه النص في مطبات تحجب عن النص (شعريته)خصوصا وأن عبدالصبور يعلن في مواضع أخرى من كتابه عن تحول فكره من مرحلة الإنكار بدافع يائس حزين من واقع مجتمعه الفقير المعدم القلق، إلى واقع آخر أكثر طمأنينة وروحانية وذلك وفق تحولين جديدين، أحدهما سياسي والآخر ديني. فعن الواقع السياسي يقول-صلاح عبدالصبور -: (ولعل هذه الرؤية للحياة والموت هي ما يتضح في هذا الديوان في أعمال أخرى مثل (الملك لك)، ولكني أدركت في أواخر تلك الفترة أن إيماني بالمجتمع هو لون من التجريد، وأحادية الرؤية، ولعل بعض الأحداث السياسية في أوربا الشرقية عام1956,وبعض القراءات الأخرى، وحملة خروشوف ضد الستالينية، مع ما صاحبها من كشف لكثير من فظائعه قد أسهمت كلها في زلزلة كثير من معتقداتي في ذلك الوقت). وعن واقعه الديني الذي تحول عنه - من قبل- إليه؛ يقول:( إن حياتنا مجدبة وسخيفة ما لم ترتبط بفكرة عامة وشاملة، يسعى إلى الكمال، وما الكمال؟ أهو التقدم الآلي الصناعي، هل أضاف ذلك كله شيئا إلى معنويات الإنسان وأخلاقياته,بل هل أضاف إضافة كبيرة إلى مادياته فحماه من الفقر والجريمة؟,لتكن الدورة إذن هي غاية الكمال، ومن حيث انطلق وبدأ يعود,وليكن الكمال هو العودة إلى الله نقيا كما صدر عنه).