السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فقد اطلعت كالمعتاد على زاوية أخي المبارك عبدالرحمن السماري -وفقه الله- الموسومة ب(مستعجل) وكانت بعنوان (خلع الزوجات أضعف قوامة الرجال) وأنا أقول: (بل ظلم الزوجات أضعف قوامة الرجال). ولي وقفات مع هذا المقال: الوقفة الأولى: أهمية القضاء ومكانته. فالقضاء في الإسلام له مكانة عظيمة، ويدلك على شرفه أنه من وظائف الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فالغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب تحقيق أمرين عظيمين: 1- هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور. 2- نشر العدالة ومنع الظلم ونشر الأمن والطمأنينة بين الناس وأهم وأجدى وسيلة لتحقيق هذا الهدف هو القضاء. ولذلك أجمع العلماء على أن القضاء بالحق من أقوى الفرائض بعد الإيمان بالله، والقيام به من أشرف العبادات ولهذا قال عمر رضي الله عنه (القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة). وقال ابن سعدي - رحمه الله - في تفسيره: (إن الحكم بين الناس مرتبة دينية تولاها رسل الله وخواص خلقه). وأما مكانة القضاء بين الوظائف فهي أسمى مكانة وغيره من الوظائف خادمة له، فالوزارات ساهرة على حفظ مقامه وصون حرمته، والجيوش تسخر لحراسة العدل وتطبيق أحكام الشرع. الوقفة الثانية: همسة في أذن كل من أطلق لسانه وقلمه في النيل من القضاء ورجاله: أقول له تأمل قول الله تعالى {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} والحديث الصحيح (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) وأيضاً الحديث الصحيح (وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم). رحم الله العلامة الإمام محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية ورئيس قضاتها إذ قال في الفتاوى 12-338 (كل شخص يصير ديدنه الوقيعة في القضاة وطلبة العلم والتشويش عليهم فإنه لا يعود وبال ذلك إلا عليه). وقال أيضاً: (وأمر التشويش غير مرضي عند الله ورسوله وعندنا وسائر إخواننا وعند ولاة الأمور، ونسأل الله قبل كل شيء أن يهديهم ويقوي ولاة الأمور عليهم باستعمال التعزيرات الشرعية التي تكف الفساد وتسبب صلاح العباد). وقال أيضاً مخاطباً الملك سعود - رحمه الله- عندما تشكى شخص من الحكم الصادر عليه من القاضي: (أحيطكم علماً أنه كثيراً ما يقع مثل هذا يتظلمون من القضاة، ويرمونهم بعدم الإنصاف، وكل ذلك كذب وافتراء على القضاة). الوقفة الثالثة: دور القضاة أمام الشقاق الزوجي: القضاة -ولله الحمد- من أحرص الناس على معالجة الشقاق والإصلاح بين الزوجين، وليسوا هم -والعياذ بالله- الذين يحرصون على هدم البيوت وتضييع الأطفال أو يسرّعون عملية التطليق من غير مسوغ شرعي ومن غير تريث وحكمة وروية فليسوا جهالاً ولا حمقى ولا عاطفيين. إن كان هناك ما يوجب تسريع عملية التطليق كأن يكون الزوج صاحب مخدرات- والعياذ بالله- وطلبت المرأة الفراق وثبت لدى القاضي ذلك، فإن التعجيل هنا مقصود شرعاً، لأن من الظلم إبقاء المرأة مع فاسق مثل هذا، قال ابن عاشور في مقاصد الشريعة (بقي علينا إكمال القول في مقصد التعجيل بإيصال الحقوق إلى أصحابها وهو مقصد من السمو بمكانة، فإن الإبطاء بإيصال الحق إلى صاحبه عند تعينه بأكثر مما يستدعيه تتبع طريق ظهوره يثير مفاسد كثيرة) أ.ه أما إن لم يكن هناك ما يبرر التعجيل فإن القاضي يسير في قضية الشقاق الزوجي على المنهج الذي رسمته هيئة كبار العلماء في قرارها رقم 26 في 21-8-1394ه وهذا نص الحاجة منه (أن يبدأ القاضي بنصح الزوجة وترغيبها في الانقياد لزوجها وطاعته، وتخويفها من إثم النشوز وعقوبته، وأنها إن أصرت فلا نفقة لها عليه ولا كسوة ولا سكنى ونحو ذلك من الأمور التي يرى أنها تكون دافعة للزوجة إلى العودة لزوجها ورادعة لها من الاستمرار في نشوزها فإن استمرت على نفرتها وعدم الاستجابة عرض عليهما الصلح، فإن لم يقبلا ذلك نصح الزوج بمفارقتها وبين له أن عودتهما إليه أمر بعيد ولعل الخير في غيرها ونحو ذلك مما يدفع الزوج إلى مفارقتها فإن أصر على إمساكها وامتنع عن مفارقتها واستمر الشقاق بينهما بعث القاضي حكمين عدلين ممن يعرف حالة الزوجين من أهلهما حيث أمكن ذلك، فإن لم يتيسر فمن غير أهلهما ممن يصلح لهذا الشأن، فإن تيسر الصلح بين الزوجين على أيديهما فبها، وإلا أفهم القاضي الزوج أنه يجب عليه مخالعتها على أن تسلمه الزوجة ما أصدقها، فإن أبى أن يطلق حكم القاضي بما رآه الحكمان من التفريق بعوض أو بغير عوض فإن لم يتفق الحكمان أو لم يوجدا وتعذرت العشرة بالمعروف بين الزوجين نظر القاضي في أمرهما وفسخ النكاح حسبما يراه شرعا لعوض أو بغير عوض والأصل في ذلك الكتاب والسنة والأثر والمعنى. أ.ه وهذا ما عليه العمل الآن ولله الحمد. وظهور الظلم والشقاق من أحد الزوجين لا ينافي بعث الحكمين أو يعارضه، ذلك أن الشقاق وإن ظهر من أحدهما فإن البحث عن أسبابه ودوافعه مما يساعد على علاجه بصلح ونحوه، كما أنه يساعد على كشف القضية ووضوحها للقاضي وعلى ضوئها يقرر الجمع أو الفرقة بعوض أو بدونه. ولعل القارئ الكريم يقف على مجلة العدل العدد (28) صحيفة (220) ليرى نموذجاً من نماذج القضاء في الشقاق الزوجي أو يزور إحدى المحاكم ويقف بنفسه ويشاهد كيفية سير القاضي في مثل هذه القضايا. على أنه لا يدخل في التحكيم دعوى العيوب التي يدعيها أحد الزوجين على صاحبه أو دعوى المرأة استعمال زوجها للمخدرات ونحوها من القضايا لأن القاضي يطلب الإثبات من مدعيه ويحكم بما يقتضيه الشرع. وللحكمين الجمع والفرقة بين الزوجين عند الاقتضاء. فأما أحوال الجمع بين الزوجين فعندما يحصل الشقاق بينهما ويتضح سببه مما لا يوجب الفرقة بينهما ومن ذلك حالتان هما: الأولى: إذا كان سبب الشقاق مطالبة الزوجة لزوجها بأمر لا يسوغ شرعاً أو اعتراضها على أوامر الشرع التي يلزمها زوجها بها كتأدية الصلاة. الثانية: إذا ظهر أن سبب الشقاق من الزوجة هو تخبيب أهلها أو غيرهم. ففي هاتين الحالتين لا يفرق بين الزوجين ما لم يوجد ما يقتضي التفريق بسبب آخر مما يسوغ فيه التفريق. ويفرق بين الزوجين عند الشقاق في أحوال أبرزها ما يلي: الحالة الأولى: إذا كانت الإساءة والمظلمة من الزوج، فإذا بان ظلم الزوج لزوجته وإساءته لها وإضراره بها ولم ترض بالمقام معه فرق بينهما بطلاق لقوله تعالى {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فقد أوجب الله عز وجل على الرجل إمساك المرأة بالمعروف أو تسريحها بإحسان فإذا أضر بها فقد تعذر الإمساك بالمعروف ووجب التسريح بإحسان ولما رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- إذ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (لا ضرر ولا ضرار) فإذا ثبت ضرر الزوج وجب عليه إزالته، فإذا تعين الطلاق سبيلاً له وجب، فإن امتنع منه الزوج استوفاه القاضي. الحالة الثانية: إذا كانت الإساءة من الزوجة فقط والزوج محسن إليها وفُقد الاتفاق والتآلف وحسن التعاشر بين الزوجين ولو ظهر الظلم والإساءة والمخالفة من الزوجة فرق بينهما لقوله تعالى {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فإذا تعذر الإمساك بالمعروف لنشوز المرأة وطلبها الفراق وجب التسريح بإحسان ولما رواه ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال: (جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق إلا أني أخاف الكفر وفي رواية (لكني لا أطيقه) فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فتردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم، فردت عليه وأمره ففارقها) رواه البخاري. فالحديث دال على وجوب الفرقة إذا كان النشوز من الزوجة ولو لم يحصل إساءة من الزوج. وقال ابن العربي من المالكية: (إن الفرقة تكون لوقوع الخلل في مقصود النكاح من الألفة وحسن العشرة فإذا وقع الخلل في مقصود النكاح ولو بظهور ظلم الزوجة لم يكن لبقاء العقد وجه). الحالة الثالثة: إذا كانت الإساءة من الزوجين معا على وجه السوية أو أشكل أيهما ظلم، أو أيهما كان أظلم فرق بينهما بخلع. الحالة الرابعة: عدم الوئام وفقد الألفة وحسن العشرة بين الزوجين منهما معاً أو من أحدهما ولم تظهر إساءة منهما أو من أحدهما ولهذه الحالة صور منها: بغض الزوجة لزوجها وكراهيتها له وهو محسن إليها فهنا يفرق بينهما جبراً ولو لم يرض الزوج بذلك بعد بعث الحكمين للوقوف على أسباب الكراهية ومحاولة إزالتها أو الصلح بينهما ودليل ذلك قصة امرأة ثابت بن قيس بن شماس المشار إليها سابقاً. (يراجع في ذلك كتاب التحكيم في الشريعة الإسلامية لمعالي شيخنا عبدالله الخنين). ومع هذا كله فإن الحكم بفسخ النكاح لا يكتسب القطعية إلا بقناعة الزوج المحكوم عليه أو بمصادقة محكمة التمييز عليه من قبل ثلاثة قضاة وذلك عند اعتراض الزوج على الحكم. الوقفة الرابعة: مكاتب التوجيه والإصلاح: ولله الحمد في كثير من محاكمنا مكاتب للتوجيه والإصلاح تحال إليهم القضايا الزوجية وطلبات الطلاق وهذه المكاتب تضم نخبة من طلبة العلم وأهل الخبرة والحكمة الذين يقومون بجهود عظيمة في الإصلاح بين الزوجين ونسبة كبيرة من تلك القضايا تنتهي بالصلح - ولله الحمد- والقليل منها يحال للقضاة للنظر في قضية الشقاق الزوجي ومن أراد الوقوف والاطمئنان بنفسه فليراجع المحكمة الجزئية للضمان والأنكحة بالرياض -مثلاً -ليعرف مقدار الجهود المبذولة في إصلاح البيوت لا هدمها، وهناك أيضاً كاتب التوجيه والإصلاح في كثير من المحاكم وعلى سبيل المثال: مكةالمكرمة والمدينة المنورة والرياض والدمام وجدة وأبها وغيرها من المحاكم ولله الحمد. وكل ذلك بتوجيه واهتمام ومتابعة من معالي وزير العدل المبارك وفضيلة وكيله المبارك الشيخ عبدالله اليحيى وفقهما الله. نسأل الله للجميع التوفيق والسداد وأن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا وصلى الله وسلم على نبينا محمد. خالد بن مطلق بن عبدالله المطلق القاضي بالمحكمة العامة بالمدينة النبوية