لا نريد أن ينفرط من بين أيدينا ولا أن يغيب عن عيوننا ولا أن يستبعد من عقولنا تاريخ ما يزيد على شهر من المقاومة المشروعة الشرسة في الرد على حرب لم تكن تتطمع في أقل من إبادة شعب كامل، وقتل نسغ المقاومة أنى وجد. فليس لجمرة المقاومة التي شاركت أكف قريبة وبعيدة في التمسك بشرارات أملها، أو في التداوي باكتواءاتها أن تنحل -لا سمح الله- إلى رماد أو تتحول إلى ذكرى جذوة تبعدها الأيام عنا شيئا فشيئا أو يشغلنا عنها انغماسنا في حياة ليست حليفة لأمانة دم الأطفال الذين اغتالتهم يد العدوان عنوة دونما ذنب, ولا وفية لدم الشهداء الذين أطعموا زهرة أعمارهم لفعل المقاومة بما ترمز إليه من تعلق بالعدل والجمال وحب للحرية وللأوطان وللكرامة الإنسانية. لقد انطلقت يوم الثاني عشر من تموز لهذا الصيف في سماء لبنان وشبت في مراقدنا ومواقدنا المطفأة شعلة طالما اكتوت أصابعنا بمحاولة إشعالها في وجه ما لف ويلف منطقتنا من ظلم وظلام لأكثر من نصف قرن، إلا أن تلك المحاولات كثيراً ما تعرضت للإفشال أو الفشل، كما تعرضت لعمليات التشكيك والتسفيه والإخماد وإهالة الرمل. تلك الشعلة هي شعلة ثقافة المقاومة التي جرت محاولات مستميتة متتالية لتحويلها إلى ثقافة المساومة والرضوخ باسم الواقعية والبراجماتية أواستبعدت تماما ليحل محلها إما ثقافة الإرهاب أو ثقافة المداهنة, ابتداء من معاهدات السلام آخر السبعينيات الذي لا يشبه بشروطه غير العادلة إلا الاستسلام إلى اتفاقيات التسويات في التسعينيات التي لا تؤسس بتنازلاتها من طرف وإملاءتها من الطرف الآخر إلا لعكس السلام إلى عولمة الرعب الأمريكي التي تبعتهما مطلع الألفية الثالثة تحت شعار(محاربة الإرهاب) لتقوم بآخر محاولات القضاء على ما تبقى من رمق الحلم بها. إن ما جرى على أرض لبنان على امتداد شهرين هو في رأيي رد اعتبار لثقافة المقاومة التي تعرضت على مدى ما يقارب ربع قرن من الزمن إلى عملية تصفية مقصودة ومحمومة حاولت أن تمحو كل كلمة في اللغة المكتوبة أو المحكية تحمل معنى مقاومة أو تشكل أحد مشتقاتها أو أحد المفردات المرتبطة بها أو المعبرة عنها. ولهذا فقد حيد تحرير المقاومة لجنوب لبنان عام 2000 بعد اثنين وعشرين عاما من الاحتلال الإسرائيلي، وتم التعامل معه على أنه استثناء, كما ظلت الانتفاضات اليومية المتلاحقة على أرض فلسطين تعامل بنفس الحياد، حيث يتم تحاشي- إن لم نقل محاربة- كل إمكاناتها الخلاقة التي يمكن أن تؤدي إلى استبدال ثقافة المهادنة أوالانسحاب أوالتيئيس أو الاستئناس كل حسب موقعه الجيوسياسي بثقافة المقاومة. لقد خلقت مواجهة لبنان الأخيرة نوعا بسيطا ومركبا من ثقافة المقاومة لم يكن للبنانيين أن يحتملوا وحشية الحرب الإسرائيلية على المدنيين لشهر متواصل بدون أسلحتها السلمية في محاربة الموت بالحياة. وثقافة المقاومة التي واجه بها الشعب اللبناني تلك الحرب لعبت دورا نشطا وتاريخيا لن ينسى بل ربما يصير مثلا مثل مواجهة فيتنام للجيش الأمريكي والجزائر لفرنسا ومواجهة الفصل العنصري بجنوب أفريقيا في تحريك حس المقاومة وفي نشر ثقافتها ليس على مستوى لبنان وحسب، بل على مستوى العالم. لقد رأينا في بداية الحرب ذلك التحفظ أو التجاوب البارد من العالم تجاه ما كان يتعرض له لبنان من حرب إسرائلية عدوانية عليه، ولم يكن ذلك البرود على مستوى الحكومات وحسب بل حتى على مستوى عدة مجموعات من المثقفين العرب وغير العرب وعلى مستوى الشارع العربي والعالمي. غير أن ذلك الترقب الحذر والمحايد لما يجري على الساحة اللبنانية ما لبث أن شهد تحولا جارفا خصوصا على مستوى الشعوب في موقفه من لبنان ومقاومته المشروعة. ويمكن هنا أن نتحدث عن مجموعة من أفعال المقاومة التي سجل الشعب اللبناني عبر تراكمها اليومي خلال شهر من الزمان نسيج ما نسميه إعادة انتاج ثقافة المقاومة، تلك الثقافة التي كادت أن تقضي عليها وعلى تاريخها عربيا وعالميا موجة الترهيب الأمريكي خصوصا بعد الحادي عشر من سبتمبر. ومن هذه الأفعال التي جسدت ثقافة المقاومة على سبيل المثال لا الحصر على الساحة اللبنانية وردت الروح إليها عربيا ودوليا ما يلي: 1- صلابة المقاومة الشعبية وحرب العصابات على أرض لبنان في مواجهة عدوان مستعد بجيش نظامي معد بأعنف أسلحة القتال. وقد استطاعت تلك المقاومة النظيفة على عكس بشاعة وولوغ العدوان في دم مجازر الأطفال والمدنيين أن ترسم أمام عيون العالم ذلك الخيط الساطع بين المقاومة المشروعة وبين إرهاب دولة إسرائيل البواح الذي لم تألُ الإدارة الأمريكية منذ ولاية بوش الصغير الأولى جهدا في لعب لعبة خلط الأوراق بين المقاومة وبين الإرهاب. وقد كان أسلوب المقاومة الشعبي لهذه الحرب امتدادا للأسلوب الذي حرر الجنوب، حيث كان يستهدف قتال العسكريين لا المدنيين، فحتى عندما كان بمقدوره ضرب المصانع الكيمياوية الإسرائيلية بحيفا تجنب ذلك, وبينما زاد قتلى العدوان الإسرائيلي من المدنيين على ألف مواطن لبناني ثلثهم أطفال عدا عن المليون مشرد كان عدد قتلى المدنيين من الإسرائيليين لا يتعدى بضع عشرات نسبة الجنود منهم 60%. فقد كانت ضربات المقاومة تتوجه للعسكريين ولم تكن الصواريخ المصوبة شمالا إلا لرد جميل الرعب جزئيا الذي كانت توزعه إسرائيل على اللبنانين دون تمييز عبر دورة النهار والليل دون توقف. 2- هدوء الخطاب السياسي لحزب الله. فعلى خلاف تجارب الستينيات كان خطاب المقاومة خطابا عقلانيا ومتزنا بلا تنازلات، كما أنه لم يتسم بالنارية ولا بالادعاءات والعنتريات بل لا يكون هناك مبالغة أن نؤكد أنه خطاب اتسم بالصدق والشفافية العالية في نقل تفاصيل المعركة مقابل ما مارسه الإعلام الإسرائيلي من تعتيم وتضخيم لانتصارت متوهمة عملا ربما بعادة بعض حروبنا السابقة. 3- على أن المقاومة التي عشنا أوارها الحارق لحظة بلحظة طوال شهر ويومين من الزمان وتعلمنا منها وتعلم أطفالنا الصبر والعزة لم تكن فقط تلك المقاومة القتالية الأسطورية بين مقاومي الجنوب اللبناني وبين جنود العدو الإسرائيلي، بل كان هناك المقاومة السياسية البطولية خاصة في بلد يقوم على تعددية لبنان الاجتماعية والسياسية والطائفية. كان من الواضح أن إسرائيل وربما الإدارة الأمريكية بالذات كانت تراهن على تفكك الجبهة السياسية اللبنانية داخليا وربما أيضا كانت تأمل أن تتدخل هوية حزب الله في تحييد الشارع العربي أو ذبذبته. إلا أن تماسك الجبهة السياسية اللبنانية تحول نفسه إلى شكل من أشكال المقاومة التي أثرت إيجابيا على الشارع العربي. وقد لمست بيدي على سبيل المثال كيف خجل بعض المثقفين العرب أن يختلفوا على الأساسيات في الظل والمكاتب المكيفة بينما اللبنانيون تحت قصف الغارات اليومي متماسكون وملتفون خلف المقاومة باعتبارها مع وحدتهم حبل الإنقاذ الوحيد. 4- ثقافة المقاومة أيضا تبدت في وسط الحرب، وبعد وقفها في ذلك المد المدني الذي التف حول بعضه في مواجهة العدوان. فمن الاستضافة للنازحين إلى إقامة الاعتصامات ببيروت إلى إقامة نشاطات يومية للأطفال سواء في الحدائق والمدارس التي التجئ إليها أو في المسارح رغم استمرار الغارات وانقطاع الطرق والماء والكهرباء. فمثلا كانت نضال الأشقر تقيم نشاطا يوميا مقاوما على مسرح المدينة ومثلها مقاومة الإعلام, ومقاومة الاستشفاء ومقاومة الكتابة ومقاومة الشعر والموسيقى ومقاومة الولادات الجديدة, وتآخي أهالي قرى الجنوب مع أهالي المخيمات الفلسطينية هناك لمواجهة تلك الحرب العدوانية الحرام بحلال المقاومة. 5- انتشار شمس ثقافة المقاومة من لبنان إلى عدد واسع من بلدان العالم والعالم العربي. وقد لمسنا ذلك في عدد من التظاهرات والاعتصامات وخطابات الاحتجاج للمنظمات الدولية الحقوقية المدنية والرسمية والسفارات والمشاركة في حملات التطوع المادي والمعنوي التي بادرت إليها عدة من قوى المجتمع العربي والدولي. 6- غير أن من أهم معطيات ثقافة المقاومة على المستوى العربي من خلال انهيار سطوة خرافة أن جيش العدو الإسرائيلي جيش لا يقهر ولا قبل للعرب بمواجهته في جانب ومن خلال الموقف العربي سواء في انسحابيته أول الحرب أو في نجاحه الجزئي والنسبي بمجلس الأمن في وقف الحرب وإن كان جاء بدون أدنى إدانة لإسرائيل على الأقل في توحشها في قتل الأطفال من الناحية الأخرى، باتت تطرح أسئلة جادة مثل: هل لا يزال هناك من الأنظمة العربية من يظن أنه يستطيع أن يدعي ريش المقاومة لستر عوراته السياسية؟ أو هل بقي من يجرؤ على معاداة ثقافة المقاومة لأنها تكشف أن أميته لا تسمح له أن يقرأ إشارات الحرب ولا شروط السلام؟! وأخيراً هل يمكن بعد هذا الصيف الساخن من الحرب على لبنان ومن المقاومة الباسلة أن يرضى العالم العربي بثقافة المداهنة والملاينة واللامبالاة بديلا لما جربه من كرامة ثقافة المقاومة. وبعد.. لو كل منا يسأل نفسه ماهي ثقافة المقاومة التي اكتسبناها من هذه التجربة بفواجعها وبوارقها.فلا أظن أن هذا السؤال الصعب الذي قد يعده البعض سؤالا خطيرا يحتمل إلا إجابة بسيطة لا تحتمل ما يحف به من توجس أو خوف. فثقافة المقاومة هي أن نوقد شمعة بدلاً أن نسهر في الظلام أو نجبر على أن ننام باكرا من شدة الحلكة. ثقافة المقاومة هي تلك التي تغزل أو تكتب بظلف الغزال بدلاً من أن تأكل يدها ذئبة العوز أو أوكسيد البطالة. ثقافة المقاومة هي ألا نخلع رؤوسنا حين نرى قطيعا - ما - خشية أن نتهم بالاختلاف. ثقافة المقاومة ألا نلبس جثثنا ونمشي بين الناس بغية تحاشي المنية أو الاحتيال على الموت. ثقافة المقاومة ألا نجوع وبأكفنا أصابع قادرة على العمل ورغيف أو خيال رغيف نستطيع أن نتشاركه. ثقافة المقاومة هي ألا نتعود رائحة النفايات بدلاً أن نشرع في تنظيف الشارع أو المكان. ثقافة المقاومة هي ألا يؤخذ أطفالنا منا إلى ساحة الحرب أو يتحولون إلى مشهد في مذبحة بدل الذهاب إلى ساحة اللعب وإلى المدرسة. ثقافة المقاومة ألا نتخلى عن أحلامنا لتكون أوطاننا بمقاس القبر. فثقافة المقاومة أن نقاوم لنحيا أحرارا.. لا لنموت. ولله الأمر من قبل ومن بعد.