مقابلة متخيلة مع وزير الأمن عمير بيرتس بعد الحرب: الصحافي لعمير بيرتس: لقد قلت في بداية الحرب أن نصر الله سوف يتذكر لسنوات طويلة أسم عمير بيرتس. عمير بيرتس للصحافي: من هو عمير بيرتس؟ لقد هدد وزير الأمن الإسرائيلي فعلا بهذه الطريقة في بداية الحرب. وكشف ذلك عما في مكنون النفس من عقد للتمثل بالعسكريين، وعن كم"التشبيح"والرجولية الكاذبة القائمين في السياسة الإسرائيلية المعاصرة، وعن دوافع شخصية وحزبية سهلت على الجيش وأميركا جر الحكومة من رد الفعل إلى حرب شاملة. لم نحتج إلى تقرير سيمور هيرش في عدد"نيويوركر"الأخير لكي نشخص أن الحرب أميركية. بل نميل إلى الجزم أن مقاله يميل إلى التآمرية أكثر مما ينبغي. ما هو منطقي في كلامه قلناه في الأسبوع الأول للحرب، وما هو جديد في كلامه احتمالي فقط. يفترض أن تأخذ الحرب الأميركية ضد إيران وسورية المقاومة في طريقها، والحرب أميركية في لبنان نفسه أيضا لإزالة العائق أمام ضمه إلى الحظيرة الأميركية، وقد التقت هذه الأجندة الأميركية مع مهمات إسرائيلية عسكرية مؤجلة متعلقة بتراكم قوة"حزب الله"الصاروخية تحت أنف إسرائيل لو فحص أولمرت وبيرتس لوجدا أن تأجيلها من قبل سياسيين سابقين رغم إلحاح العسكريين لم يكن بالصدفة، والتقت مع رغبة إسرائيلية بالردع بعد تمرد غزة على سجن فك الارتباط، والتقت مع سياسيين حاليين ضيقي الأفق يمكن إقناعهم بأن الفرصة فرصتهم. الكلمة المفقودة من خطاب أولمرت ما بعد الحرب هي كلمة نصر أو انتصار. لم يستخدمها إلا كفعل مستقبلي:"سوف ننتصر". نقول ذلك لعلم بعض النيو-ليبراليين والمحافظين العرب الذين يعتقدون أن"حزب الله"قدم لبنان لقمة سائغة لإسرائيل. أولمرت تحدث عن إنجازات. وجميعها تشتق من إنجاز واحد لم تحققه ساحة القتال بل قوة أميركا المطلقة في مجلس الأمن. لا تقوم من دون هذا القرار قائمة ولا حتى لوهم النجاح في تحقيق أي هدف من أهداف الحرب. وهو قرار يسهل اتخاذه أكثر من تطبيقه. فمن السهل إقراره بعيداً عن ميدان المعركة، ولكن تطبيقه يخضع إلى الموازين الناجمة عن نتائج المعركة في دولة بعينها. اتخذ القرار في مجلس الأمن، في حين يفترض أن تطبيقه سيجري في لبنان. والغائب الأهم من الخطاب هو كلمة السلام. وقلما ألقى رئيس حكومة إسرائيلي كلمة أو التقى جمهوراً من دون مسحوق"السلام"السحري الذي يطلى به الخطاب، أو من دون أن يرش ال"شالوم"في القاعة مثل ملطف الأجواء أو من دون أن تتدلى كلمة"بيس"بالانجليزية من جيب بدلته. ربما حسب أن هذه الكلمة ستخفف من صورة التصميم أو الرجولة التي يجب أن يطبعها الخطاب في أذن السامع. فاستبدل المساحيق بألوان مقاتلي القبائل ترسم على الوجه. لقد أكد أنه مستمر في سياسة المواجهة موجهاً تهديداته ذات اليسار وذات اليمين، لم يبخل بها، مؤكداً أن إسرائيل ستكرر التجربة إذا لزم، وأن هذا درس للآخرين، كأنه خائف من أن تشجع التجربة آخرين. أما تهديد قيادة المقاومة بالملاحقة والقتل فهو تهديد وحش جريح قد يكون مؤذياً لأنه قد يقوم بمغامرات مستعيدا أساطير"عنتيبي"التي بنوا مطارها بأنفسهم وخبروا خريطته أفضل من عيدي امين نفسه. إنهم بحاجة الى صورة واحدة، الى مؤتمر صحافي سريع عن اغتيال ناجح. وهم بحاجة أن يحشروا المقاومة وقياداتها في خانة الإرهابيين المطلوبين في حين يتجولون هم في صالونات ديبلوماسية الحرب على الإرهاب. لم يبق في جعبة إسرائيل طريق سياسي ولا اقتراحات سياسية. وخيار الإملاء من طرف واحد لم يكن سياسة أصلاً بقدر ما جسد إغلاق باب السياسة والتفاوض منذ كامب ديفيد الأخير، الذي عقد بدوره بعد أن أغلق الباب مع سورية. وعلى تلك المفاوضات يترحم الآن بعض من عرقلوها سابقا أمثال يوسي بيلين. في غزة وفي لبنان انهار خيار الإملاء من طرف واحد ومعه فك الارتباط. وعينت إسرائيل نفسها في هذه الأثناء مشرفة على تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701، وهذا بحد ذاته من علامات الساعة. وسوف تمضي الوقت في الحديث عن هذا القرار وعن عدم تطبيقه. سوف"تسكِّج عليه"سياسياً،"تسلِّك حالها"به كما يقال في بلاد الشام. لقد خرجت إسرائيل من حضيض الجريمة والقرصنة الجوية من دون رسالة سياسية الى العرب. حتى خطاب الرئيس السوري الذي أثار حفيظة من شاء أو من صعب عليه مهاجمة خطابات أمين عام"حزب الله"لم يخل من كلمة سلام. ليست لديهم رسالة. وسينتقمون أكثر في الضفة والقطاع. لقد أفسدتهم حروبهم الموهومة على الضفة والقطاع الأعزلين، علَمتهم كيف يقمعون وأنستهم كيف يحاربون. لقد خدعتهم غطرسة الدبابة وهي تدخل رام الله في الاجتياح ويميل بها طاقمها ليدوس كل السيارات المركونة على جانبي الطريق. غشهم قصف ثلاث دبابات لأحياء كاملة في غزة. ليس في إسرائيل شعور بالنصر، بل هنالك شعور بالفشل، أو الإخفاق، ككلمة ملطفة للهزيمة. وتشحذ السكاكين للصراع داخل الائتلاف، بينه وبين المعارضة وبينهم جميعاً وبين الجيش. وينطبق عليهم جميعا أنهم:"لو عرفوا أن هذه ستكون النتيجة لما ذهبوا إلى الحرب"وهذا أفضل تلخيص لموقف الفاشل، وأفضل تعريف للخاسر. وسيستنتجون النتائج العسكرية من هذا المواجهة، سينكبون على دراسة التجربة، وستقوم لجنة تحقيق رسمية بإعداد تقريرين واحد علني والآخر سري كما في حرب تتشرين الأول اكتوبر لجنة اغرانات وكما في صبرا وشاتيلا لجنة كاهان. وسوف يدرسون كيف اتخذ القرار، ولماذا تأخر الاجتياح بعد أن اتخذ القرار، وماذا يعني تصدير الحرب إلى أرض الآخرين، وهي عقيدة إسرائيل العسكرية الأولى منذ الخمسينات: امتصاص الضربة ثم تصدير الحرب خارج الحدود. وفي إحدى تفرعاتها أدت الى نظرية الحرب الاستباقية كما في عام 1967، وإقناع الواقعيين في الإدارة الأميركية أمثال رامسفيلد وتشيني من جديد أن إسرائيل كنز استراتيجي وليست عبئاً استراتيجياً، وإعادة التشديد على الحرب البرية وعودة الميزانيات الكبيرة للجيش. ولكنهم لن يستطيعوا إنتاج الإنسان الإسرائيلي الطليعي، المقاتل والمزارع من مرحلة التأسيس، ذلك الذي ذهب ولن يعود ولا يشبه جيش الاحتياط الحالي الهجين الثقافة بين رفاهية المجتمع الاستهلاكي والعالمثالثية الذي قذف مثل الحطب إلى المعركة في نهايتها من دون تجهيز كاف، لهدف وحيد هو تحسين وضع القيادتين العسكرية والسياسية، وسوف يبحثون إعادة ترميم الردع، وإمكانية تبني جيوش نظامية أخرى في المنطقة استراتيجية حرب العصابات. ولكنهم لن يدرسوا إخفاقات باراك وشارون ومسؤوليتهما عن هذا الوضع بعقلية الإملاء من طرف واحد، ولن يعيدوا النظر في تصورهم العنصري للعرب ولا في فرضياتهم الأساسية، ولن يراجعوا تقويم علاقتهم العدائية مع شعوب المنطقة. وسيبقى الإخفاق فنيا تكتيكيا، وسوف يضيع في تفاصيل تصفية الحسابات الحزبية. سيتناقشون حول العودة أو عدم العودة إلى التفاوض، ولكنهم لا يدركون أن لا احد يريد أن يفاوضهم حاليا سوى من لم تؤثر جرائمهم على علاقته بهم، بل انتظر نتائجها السياسية بفارغ الصبر. في ما عدا هذا النمط لا أحد يريد تفاوضاً معهم. كان الهدف الإسرائيلي العيني والمحدد للحرب هو استعادة"هيبة الردع"الإسرائيلية، وهي من أسس العقيدة الأمنية الإسرائيلية. وهذه لم تستعد ولم ترمم بل تضررت في هذه الحرب، إذ تبين أن اعتمادها على سلاح الطيران يخرب وبهذا المعنى يردع المجتمعات ولكنه لا يردع مقاومة حفرت وتخندقت عميقا في الأرض. وهذه قادرة في القتال البري على استعادة حتى ثقة المجتمعات بنفسها. واضح أن نموذج حالوتس المفضل للمعركة كان قصف صربيا بطائرات الناتو مدة 72 يوما أو قصف العراق. وفي الحالتين لم تكن مقاومة بل ديكتاتوريات لا تتحمل شعوبها ثمن الصمود للدفاع عنها. وفي حالة العراق على الأقل كان يجب أن تنهار الديكتاتورية كي تندلع نيران المقاومة. أما الهدف الإسرائيلي الثاني المعلن للحرب فقد تراوح متذبذباً بين ضرب قدرة"حزب الله"وإبعاده عن الحدود الإسرائيلية. وهو الهدف الذي التقى مع الأهداف السياسية الأميركية، ولم يكن تحقيقه ممكنا إلا في قرار لمجلس الأمن. وهذا الأخير كان يمكن أن يمرر أميركيا من دون حرب كما مرر القرار 1559. أما نشر الجيش اللبناني فقد وافقت عليه المقاومة في ظل الحرب ذاتها كضريبة دفعت لصمود قوى لا ترى أن الحرب حربها في وجه الضغوط الدولية. ولأن التنوع اللبناني لم يتوحد في التعامل مع الحرب كأنها حربه، ولا الحرب كانت كأنها موجهة ضد الجميع. وعلى كل حال، يجوز السؤال عن سبب عدم موافقة المقاومة على انتشار الجيش في الماضي أيضا، فما سيق الآن من حجج لتبرير قبول انتشار الجيش كجيش وطني كان صحيحاً في الماضي أيضاً. أما في مسألة تحقيق الأهداف الأميركية فلم يحسم الصراع إذ نقلته الحرب إلى الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية، وعندما فشلت إسرائيل في حسمه أعاده قرار مجلس الأمن إلى لبنان، لكي تبدأ مرحلة جديدة. وكل من يريد التعامل مع هذه المرحلة الجديدة لا بد أن يخلص إلى أن إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها من الحرب، وأن هذا إنجاز المقاومة. ولأن المقاومة لم تخرج الى الحرب، بل إسرائيل هي التي خرجت، وهي التي يجب أن تحقق أهدافها، فإن إفشال أهداف العدوان بصمود وبسالة وبقتال المقاومة يعني أنها بهذا المعنى انتصرت. لم تتوقع المقاومة الحرب. وعلى كل حال لم تتوقعها إسرائيل أيضا. ولكن المقاومة توقعت كيف ستدير إسرائيل الحرب إذا خرجت إليها، واستعدت لمواجهتها على هذا الأساس، أما إسرائيل فلم تكن لديها فكرة عن وضع المقاومة، وقد فوجئت رغم أنها البادئة في الحرب. هذه معايير هامة لتحديد الإخفاق والنجاح العسكريين في الظروف المعطاة. ونضيف أيضاً: أن الانتصار الحقيقي ل"حزب الله"هو قاعدة المقاومة الشعبية. وكما يحسد البعض المجتمع اللبناني على هذه المقاومة، يجب أن تحسد المقاومة على هكذا مجتمع. واقصد تحديدا مجتمع الجنوب والضاحية والبقاع."أولئك إخواني فجئني بمثلهم...". هذا النتاج التاريخي الحضاري السياسي الأدبي الجمالي الفذ من مزارعي التبغ والمقاومين، من جيران فلسطين وسورية على حدود قبول ورفض سايكس بيكو، من جبليين وساحليين، شمال الجليل وجنوب لبنان، من عذاب المحرومين وثيولوجيا المضطهدين والإيمان بالخلاص، من الانفتاح والاجتهاد الى الشاعرية، من العروبة غير العرقية والأصالة اللبنانية، من الشيوعية والوطنية والقومية والتدين والتعددية الطائفية، من عاشوراء والدبكة والزجل والشعر، وكل هذا في بقعة صغيرة لكل ذراعين من الأرض فيها أسم وقصة وانتماء. صورة مصغرة عن لبنان الذي تحسبه قبل ان تزوره امبراطورية لكثرة أسماء المسميات، لتكتشف أنه دنم واحد مستغل سياسيا وحضاريا مثل حدائق معلقة، وكأن خالقه فلاح مجتهد على فلحه في أدوار من الثقافات وطبقات من التنوع، ووجد مساحة كافية ليترك مساحات غير مزروعة، بحر وجبل ومدينة وقرية وفولكلور واصالة وحداثة وتقليد كلها متراصة فوق بعضها بعضاً من دون أن تفقد الضيعة خصوصيتها على بعد مرمى العصا من المدينة. تحسب أن السوديكو دولة وانت تتابع بيانات الحرب الأهلية شابا إلى أن تكتشف أنه شارع صغير، وتحسب أن"غاليري سمعان"هي متحف بحجم المتروبوليتان في منهاتن على الأقل. فالقنص توقف الى جانب"غاليري سمعان"وتجددت الاشتباكات من حوله، ثم تقف مشدوها فاغرا فاك عندما ترى بأم عينك أن المقصود هو محل أثاث عادي. ويندهش اللبنانيون من دهشتك. يتكلم كل فرد منهم لغة عربية سياسية غنية بالمفردات بين العامية والفصحى، كأنه يعيش بين الصحافة والسياسة والاجتماع الحزبي. ليس هذا كله وليد المقاومة، إنه وليد مرحلة طويلة من التطور التاريخي سابقة على المقاومة. والمقاومة وليدته. هكذا شعب يستحق هكذا قيادة تزيده تنظيما وتزيده صلابة وقوة إرادة وحكمة. إن تقديس هذه القيادة كما فعلوا مع عبد الناصر وغيره فدمروه ودمروا مشروعه هو أكبر خطأ يمكن ارتكابه بحق هذا الشعب. وهو تقديس يكرره معها بعض القوميين الذين لا يعرفون لغة أخرى في التقدير وبعض المتدينين تعصبا، ويتنافى مع خصوصية هذه القيادة. بعد وقف إطلاق النار لم ينتظروا ساعة في الحدائق العامة وفي المدارس. قاموا وتوجهوا جنوبا يدحرون إسرائيل وجيشها. وهم شعب لبنان أطفالا ونساء ورجالا اصلب من الصخر وأرق من غناء أم لابنها في السرير. إنه الزحف العظيم إلى الجنوب، قبل ان تبنى الجسور وقبل ان ترمم الطرق، فكانوا هم الجسر وهم العبور. كان هذا هو الانتصار الفعلي. لقد احبطوا أولا مقولة"عدم قدرة لبنان على احتمال نتائج الحرب وأهمها النازحون"، وفندوا عبارة"اللاجئين كحالة ضاغطة"على بقية لبنان وبالتالي على المقاومة، لا يحتملها"التوازن الطائفي"، عبارة لم يعد يحتملها أحد عندما تستخدم بهذا الشكل، وثانيا أجبروا الجيش الإسرائيلي على تحويل وقف إطلاق النار إلى حالة انسحاب. لا ردع إسرائيليا ولا من يحزنون. هؤلاء أهدوا المقاومة نصرا آخر بصمودهم وانضباطهم وقدرتهم على التحمل ثم بزحفهم الكبير. لا، ليسوا مهجرين، ولا توجد قضية لاجئين في لبنان. على كل حال مهما حلل المحللون ومهما طال المؤتمر الصحافي لإقناع الصحافيين أن إسرائيل انتصرت، وحتى لو كانت المعايير والحجج التي تساق موضوعية يتجول الإسرائيلي المتوسط بشعور بالخيبة والفشل في حين يتصرف هذا اللبناني كأنه انتصر. هذا التصرف الفطري المباشر هو عنصر أساسي في تعريف المنتصر والمهزوم وسلوكهما في المرحلة المقبلة. * كاتب عربي