السّفر أحد أسباب المعاش التي بها قوامه ونظامه، لأن الله تعالى لم يجمع منافع الدنيا في أرض بل فرقها، وأحوج بعضها إلى بعض، ومن فضله أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار وبدائع الأقطار ومحاسن الآثار ما يزيده علماً ويفيده فهماً بقدرة الله عزَّ وجلَّ وحكمته، ويدعوه إلى شكر نعمته، ويسمع العجائب ويكسب التجارب ويفتح المذاهب ويجلب المكاسب ويشدّ الأبدان وينشط الكسلان ويسلي الأحزان ويطرد الأسقام ويشهي الطعام ويحط سَوْرة الكِبْر، ويبعث على طلب الذِكْر. وقد مدح الله تعالى المسافرين فقال سبحانه: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ}(20) (سورة المزمل)، كما أمر جلّ اسمه بالسفر فقال: {فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (10) سورة الجمعة، وقال جلّ وعلا: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } (15) سورة الملك. يقول أبو منصور الثعالبي في كتابه (اللطائف والظرائف) في الخبر: سافروا تغنموا وتصحوا. وورد: ابن آدم جدّد سفراً أجدّد لك رزقاً. قال ابن المعتز: أشقى من المسافر إلى الأمل مَنْ قعد في الناس عن العمل. قال أحد الشعراء: فَسِرْ في بلاد الله والتمس الغنى تعِشْ ذا يسارٍ أو تموت فتعذرا ولا ترضى من عيش بدَّين ولا تنم وكيف ينام الليل من كان معسرا وقال آخر: ليس ارتحالُك تزداد الغنى سفراً بل المقام على بؤس هو السّفرُ وقال حاتم طيء: إذا لزم الناسُ البيوتَ رأيتهم عماةً عن الأخبار خُرْق المكاسب جاء في المبهج للثعالبي: مَنْ آثر السفر على القعود، فلا يبعد أن يعود مورق العود. وقيل: ربما أسفر السفر عن النظر، وتعذرّ في الوطن الوطر. وجاء في المحاسن والمساوئ للبيهقي: اطلبوا الرزق في البُعْد فإنكم إن لم تكسبوا مالاً غنتم عقلاً كثيراً. مدح أعرابي رجلاً فقال: خرّجته الغُرْبة ودربته التجربة وضرسته النوائب. وقيل لأحدهم: ما العيش؟ فقال: دوران البلدان ولقاء الإخوان. وجاء في كتاب اللطائف والظرائف لأبي نصر المقدسي: ليس بينك وبين بلدك نسب، فخير البلاد ما حملك وجملك. وقيل: اهجر وطنك إذا نبتْ عنه نفسك، وأوحش أهلك إذا كان في إيحاشهم أُنْسك. قال أحد الشعراء: وإذا الدّيار تنكرت عن أهلها فدعِ الديار وأسرع التحويلا ليس المقامُ عليك حتماً واجباً في بلدةٍ تدعُ العزيزَ ذليلا وقد قيل: أحقّ البلدان بنزعك إليه بلد أمصّك حلب رضاعه. وقيل: احفظ بلداً أرشحك غذاؤه وارعَ حمى أكنّك قناؤه. وقيل: لا تشكّون بلداً فيه قبائلك، ولا أرضاً فيها قوابلك. قال أحدهم: الفقر في أوطاننا غُربة والمالُ في الغُربة أوطانُ والأرضُ شيء كله واحد ويخلف الجيران جيرانُ وقال غيره: إذا نلتَ في أرض معاشاً وثروةً فلا تكثرن فيها النزوع إلى الوطنْ فما هي إلا بلدة مثل بلدةٍ وخيرُهما ما كان عوناً على الزمنْ ولأبي فراس: والمرء ليس ببالغٍ في أرضه كالصقر ليس بصائد في وكْره وقال الطريفي: أرى، وطني كعش لي ولكن أسافر عنه في طلب المعاشي ولو لا أن كسب القوتِ فرضٌ لما برح الفراخُ من العشاشِ أما ماجاء في ذم السّفر والاغتراب، فقد ورد: السفر متعب مكرب والحديث يقصِّر ويسّلي كربه. قيل لبعض الحكماء: إن السفر قطعة من العذاب. فقال: بل العذاب قطعة من السفر، ونظمه مَنْ قال: إن العذاب قطعة من السفر يا رب فاردد لي إلى ربقِ الحضر وكان الحجاج يقول: لو لا فرحة الإياب لما عذّبت أعدائي إلا بالسفر. وكان بعض الحكماء يقول: السفر والسقم والقتال ثلاثة لثلاثة: السفر سفينة الأذى، والسقم حريق الجسد، والقتال يُثبت المنايا. وكان يقال طول السفر ملالة، وكثرة المنى ضلالة وكان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يتعوذ من وعثاء السفر. جاء في المبهج للثعالبي: رُبَّ سفر كسقر. وكان يُقال: خمسة يُعذرون على سوء الخلق: المريض والمسافر، والصائم، والمصاب، والشيخ. وجاء في اللطائف والظرائف للثعالبي: كان يقال: النُقلة مُثلة، والغُربة كُربة والفُرقة حرقة. قال بعض الحكماء: الغريب كالغرس الذي زايل أرضه وفقد شربه، فهو ذاوٍ لا يزهر وذابلٌ لا يثمر. قال أحد الشعراء: يا نفسُ ويحك في التغرّب ذلةٌ فتجرعي كأس الأذى وهوانِ وإذا نزلتِ بدار قوم دارهم فلهم عليك تعزّر الأوطانِ قيل: الغريب كاليتيم العظيم الذي ثكل أبويه. فلا أم ترأمه ولا أب يرأف عليه. وكان يقال: عسرك في بلدك خير من يسرك في غربتك. ونظمه مَنْ قال: لقُرْب الدار في الإقتار خيرٌ من العيش الموّسع في اغتراب قال البُّستي: لا يعدم المرء كِنّاً يستكن به ومتعة بين أهليه وأصحابهْ ومَنْ نأى عنهم قلت مهابته كالليث يُحقر لمّا غاب عن غابهْ جاء في المحاسن والمساوئ للبيهقي: الغُربة ذلة، فإن ردفتها علّة، وإن أعقبتها قِلَة، فتلك نفس مضمحلّة. قيل لأعرابي فما الغبطة؟ قال: الكفاية ولزوم الأوطان والجلوس مع الإخوان. جاء في كتاب اللطائف والظرائف لأبي نصر المقدسي: قول أحدهم: ومَنْ ينأَ عن دار العشيرة لم يزلْ عليه رعودٌ جمّةٌ وبروقُ وقال العتابي: فيا ابن ابي لا تغتربْ إن غربتي سقتني بكفّ الضيّم ماء الحناظل وكان يقال: الغريب كالوحش النائي عن وطنه فهو لكل رامٍ رميّة ولكل سبع فريسة، ولكل كلب قنيصةُ. وكانت العرب تقول: الغُربة ذلة والذّلة قلّة وكان يقال: لا تنهض عن وكَرْك فتنقصك الغُربة وتضيمك الوحدة. قال الطائي: نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحُبّ إلا للحبيب الأولِ كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزلِ وقال آخر: وإن اغتراب المرء من غير خلّةٍ ولا همّةٍ يسمو لها لعجيبُ وحسب الفتى ذلاً وإن أدرك الغنى ونال الثراء أن يقال غريبُ ختاماً أقول إن هذه بعض انطباعات وآراء الأدباء والعلماء والشعراء والفلاسفة والمفكرين والفقهاء تجاه السّفر والاغتراب مدحاً أو ذمّاً، ترغيباً أو تنفيراً. وبَعْد، فهل أنت أخي القارئ مع أم ضد السّفر والاغتراب؟! وهل نلت فوائد السّفر، وتجنّبت مساوئ الاغتراب؟!! [email protected]