اطلعت كغيري من القراء على ما كتبه سعادة الدكتور الشاعر عبد الرحمن بن صالح العشماوي في عموده اليومي (دفق قلم) تحت عنوان: بين النقد والشعر، وكم أحرص على قراءة ما يكتبه في زاويته؛ إذ أجد أنه يرخي العنان لقلمه كأنه حصان يموسق في مشيته، وأجدني أستفيد من نتاج أفكاره وما يخطه بنانه، ألمح في أسلوبه الجلال والجمال، في كتابته أجد أفانين القول وضروب التعبير؛ لأن الله وهبه نعمة الذوق السليم، وربَّى فيه النقد الصحيح. وحيث أجاد في مقالته عن مآخذ النقاد على الشعراء، وقد برر بتبريرات تحتاج إلى وقفة منه متأنية، وشطحات الشعراء كثيرة يصعب حصرها، ومعلوم أن بيت الشعر مكون من مفردات، والمفردة قد تأتي إلى الشاعر ولا يذهب إليها، ولكنها في بوتقة الذاكرة، وقد تكون المفردة من أجل الوزن لا المعنى، فمثلاً كلمتا المزنة والديمة اللتان تشيران إلى السحابة الممطرة كلتاهما سهلة عذبة يسكن لها السامع والقارئ، بخلاف كلمة البعاق فهي كلمة فجة تشنج الآذان وقد تصيبها بالصمم على رغم أنها في معناهما، والأمثلة كثيرة ولكنها تنم عن الذوق، وما نحن بصدده هم الشعراء، فالشاعر حسان بن ثابت رضي الله عنه قال: ولو أن مجداً أخلد الدهر واحداً من الناس أبقى مجده الدهر مطمعا فلم يسلم من ضعف التأليف، وهو خروج الكلام عن قواعد اللغة المطردة؛ كرجوع الضمير على متأخر لفظاً؛ لأن الضمير في (مجده) راجع إلى (مطعما)، وهو متأخر في اللفظ وفي الرتبة؛ لأنه مفعول به؛ لذا يعتبر هذا البيت غير فصيح. وقد تجد في أشعارهم تنافراً في الكلمات يصعب الاتصال؛ مما يسبب ثقلاً في السمع وصعوبة في أداء اللسان، يقول الشاعر: وقبر حرب بمكان قفر وليس قرب قبر حرب قبر وقد لا يسلم التركيب في أبيات الشعر من التعقيد اللفظي، وهو أن يكون خفي الدلالة على المعنى المراد بسبب تأخير الكلمة أو تقديمها عن موطنها الأصلي وبالفصل بين الكلمات التي من الأولى أن تتجاور وتكون متصلة بعضها البعض. وقد وقع في هذا المأزق الشاعر الذي شغل الدنيا في حياته وبعد مماته وحتى الآن، وهو الشاعر أحمد بن الحسين الطائر الصيت شعره حكمةً وضرب أمثال وشرح أسرار النفوس الملقب بأبي الطيب المتنبي، أليس هو القائل: أنى يكون أبا البرية آدم وأبوك والثقلان أنت محمد؟! والمفروض أن يقول: كيف يكون آدم أباً للبرية وأبوك محمد وأنت الثقلان؟ لقد جمع ما في الخليقة من الفضل والكمال، وقد فصل بين المبتدأ والخبر، وهما أبوك محمد، وقدم الخبر على المبتدأ تقديماً يدعو إلى اللبس في قوله: والثقلان أنت. وهناك بين الشطحات في التركيب لبعض الشعراء من التعقيد المعنوي؛ مثل اختيار كلمات لمعنى يريده فيضطرب التعبير ويلتبس الأمر على السامع؛ مثل قول حبيب بن أوس الطائي المشهور بأبي تمام، وهو الذي اشتهر بوحيد عصره في الغوص وراء المعاني وفصاحة الشعر، وهو لم يسلم من تلك الهفوات، أليس هو القائل: جذبت نداه غدوة السبت جذبة فخرَّ صريعاً بين أيدي القصائد لقد جعل كرم ممدوحه يخرُّ صريعاً، ولعل هذا من أقبح الكلام. وكذا لم يسلم ذائع الصيت الشاعر الذي قاد الشعراء إلى الافتنان في أبواب الشعر وضروبه صاحب المعلقة المشهورة، وهو من أشراف كندة وأمرائها، إنه امرؤ القيس حين يصف فرساً له: واركب في الروع خيفانة كسا وجهها سعف منتشر كونه وصفها بالخف فلا بأس، ولكنه شبهها بالجرأة. لا يخلو هذا التشبيه من الضعف، وكذلك يستهجن العرب وصف شعر الخيل بأنه يغطي الوجه. كذلك قول المتنبي لكافور الإخشيدي: كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا وقوله في مدحه: وما طربي لما رأيتك بدعة لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب فقد قال الواحدي: هذا البيت يشبه الاستهزاء. وقال ابن جني: لما قرأت على أبي الطيب هذا البيت قلتُ له: ما زدت على أن جعلت الرجل قرداً، فضحك. والأمثلة في هذا الشأن صعب حصرها، وخلاصة القول أن الناقد يختلف عن الشاعر من حيث الموقع. وعلى طريقة سعادة الدكتور أختم وأقول: أرق الفؤاد وهل ينام السهد ورنا إليه من النجوم الفرقد