الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، فقد غيّب الموت أحد الكتاب والأدباء الكبار الذين أنجبتهم هذه المملكة، وقد ترك إرثاً كبيراً من الكتب والمقالات الكثيرة التي تتميز بأسلوب أدبي رائع وقلم سيّال. رحم الله الشيخ عبدالله بن خميس وأسكنه فسيح الجنان وطرح البركة في ذريته. أما عنوان هذا المقال حول آخر ما كتبه قلمه وأملاه بلسانه، فلذلك قصة طريفة رأيت أن أعرضها لكون هذا الوقت هو مناسبتها، وحاجتي لكتابة مقدمة لكتابي (جواهر الشعر) هو الذي دفعني لزيارة ابن خميس ومحاولة الحصول منه على مقدمة قد لا تساعده صحته على كتابتها. ولكتاب (جواهر الشعر) قصة هي أني وجدت وأنا أقلب في أرشيف والدي الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود - رحمه الله - الكثير مما يمكن أن يشكل مادة لأكثر من كتاب، وكان منها ما لاحظته من كثرة الأشعار التي اختارها وكتبها - رحمه الله - في مفكرته وفي أوراق كثيرة مبعثرة بين ملفاته وكتبه، فقد كان - رحمه الله - ذواقة للأدب والشعر يهتم بالبلاغة ويحفظ جيد الشعر وقطع النثر الرائق، خاصة ما يحتوي على الحكمة. ووجدت أن ما اجتمع عندي من الأشعار كمية كبيرة تكفي لتأليف كتاب في هذا المجال يحتوي على اختياراته الشعرية التي جمعها خلال مراحل حياته المختلفة. فأكملت عملي بجمع كل ما أجده من الأشعار، حيث كنت أجد بين الحين والآخر قصاصات أخرى بين كتبه الكثيرة، وأظن أن هناك ما لم أتمكن من الوصول إليه ولكن ما اجتمع عندي كان كافياً لمادة كتاب كبير. فقمت بمراجعة هذه النصوص وتصحيح ما أتمكن من تصحيحه اعتماداً على ما أحفظه وبمساعدة الموسوعات الشعرية الكبيرة حتى تمكنت من تصحيح غالبية الأبيات الشعرية غير الواضحة أو المكسورة وتحديد اسم قائلها، وساعدني في إعداد الكتاب الدكتور رياض عبدالحميد مراد من سوريا. وقد فكرت من البداية في طلب كتابة مقدمة من إحدى الشخصيات المعروفة، وكان الشيخ عبدالله بن خميس هو الخيار الأول لكونه من أصدقاء الشيخ - رحمه الله - وكان مناصراً له عندما أصدر رسائله الشهيرة، كما أنه يعتبر حالياً شيخ الأدباء السعوديين بما أصدره من كتب وأبحاث أدبية رائعة. كنا قبل سنة من هذا التاريخ عندما جهزت نسخة أولية من الكتاب وتحينت الوقت المناسب لحالته الصحية، حيث كان في حالة صحية مضطربة، ورتبت موعداً معه وتوجهت للرياض، وكان قد أسنّ - رحمه الله - بما خشيت معه أن لا يتمكن من إجابة مطلبي. وقد أحسن استقبالي عندما عرفني وكانت صحته طيبة نسبياً، وكان اللقاء حميمًا حيث فرح بزيارتنا وكان يلح على جلوسنا كلما أردنا الاستئذان، وقد أكثر الثناء على والدي - رحمه الله -. وقد أرسلت له نسخة أولى من الكتاب قام بقراءتها على عدة أيام حسبما تسمح ظروف صحته المتداعية، واستغرق ذلك عدة أشهر كان يدخل أثناءها في فترات من المرض أو فقدان الشعور. ثم بدأ بكتابة المقدمة بمساعدة ابنه المهندس عبدالعزيز، وكنت أدعو الله أن تساعده صحته على كتابتها وإكمالها، فقد كان وضعه الصحي حرجاً وتأخر الأمر حتى بدأت أفكر في أسماء أخرى لكتابة المقدمة. وفرحت كثيراً عندما بشرني الأخ عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل محمود الذي كان يتابع الأمر بأنها أصبحت جاهزة وأرسلها لي وكانت تستحق كل هذا العناء. وقد تدهورت صحة ابن خميس بعد ذلك، وقد زرته في المستشفى فلم أتمكن من محادثته حيث كان في غيبوبة وتابعت حالته بالهاتف حتى وصلني خبر وفاته رحمه الله رحمة واسعة وأنزله منازل الأبرار. لقد كانت هذه المقدمة هي آخر ما كتبه عبدالله بن خميس، وهي قطعة أدبية رائعة تظهر مقدرته الأدبية الفذة التي لم تتأثر بكبر السن والهرم. وإنني أترك للقارئ أن يستمتع بها، فهي حقاً ممتعة لمن يتمكن من فهمها. أما بالنسبة لكتاب (جواهر الشعر) فقد طلبت وزارة الثقافة والفنون والتراث القطرية إصدار الطبعة الأولى منه، وقد سلمته إليهم وهو في مرحلة إعداده للطباعة ولا أعرف متى سيصدر. والآن إلى المقدمة.. مقدمة كتاب جواهر الشعر (الاختيارات الشعرية للشيخ عبدالله بن زيد آل محمود) بقلم: الشيخ عبدالله بن خميس قبل عدة عقود كنت تلقيت كتاباً جديداً «حول الأضاحي» من تأليف شيخي وأستاذي فضيلة العلامة الجليل الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود رئيس محاكم قطر آنذاك، تغمده الله بواسع رحمته وغفرانه.. وتمرّ الأيام وتتعاقب السنون لأجد بين يدي نسخة من كتاب تحت الطبع عنوانه: (جواهر الشعر) قام بجمع مادته الأساسية - رحمه الله - ولم يقم لا بتأليفه ولا الإشراف على تبويبه وتنسيقه ولا حتى تسميته، وكان من أرسل لي هذه النسخة فضيلة الأخ الشيخ عبد الرحمن بن عبدالله بن زيد آل محمود - حفظه الله - طالباً مني أن أضع مقدمته، وقد أرفق لي صورة من خطاب قديم كنت قد وجهته لوالده ووالدنا الشيخ الجليل - رحمه الله -، أشكره من خلاله على هديته وأشيد بفكره وعلمه وراجح عقله وسعة أفقه، ولا أجد ضيراً في اقتطاف بعض مما كتبته لشيخي آنذاك كي يدرك القارئ عن أي علمٍ وقامةٍ نتكلم، ولأي شيخٍ وأديبٍ وقاضٍ جليل نقدم: (ولقد تلقيت نسخةً من كتابكم الجديد «حول الأضاحي» وما يصل ثوابه للميت بنص الشرع، وقرأته بكل شوقٍ واغتباط، والواقع أن استنتاجاتكم واجتهادتكم الإسلامية ومآخذكم الموفقة لما يتفق وروح الإسلام ومقاصده المرنة السمحة إذ هي تهدف إلى تحكيم الكتاب والسنة والرجوع إلى معينها الصافي دون الالتفات إلى التقليد والمحاكاة وتحكيم آراء الرجال، الأمر الذي يجعلنا نطمع في أن يكثر الله من أمثالكم أهل العقول النيرة والأفكار الرحبة الذين تنشرح بهم الصدور وتطمئن إليهم القلوب ويجتذبون الناس بما أعطاهم الله من الحكمة والموعظة الحسنة والمنطق الهادف والبحث عن الحق أين ما كان وحيثما كان، ولا أكتم شيخي الفاضل أنني من المعجبين باجتهادته الشرعية وبصراحته في الحق ولا أزال ولن أزال أكرر إعجابي وأدعو من صميم قلبي أن يكون قدوة الرجال من هذا الطراز لا تأخذهم في الحق لومة لائم ولا يركنون إلى التقليد الجامد الأعمى بل يجاهرون بالحق ويجاهرون به، وأنا واثق (وإن حف اجتهاداتكم الإسلامية ما حف بها من تنفجات ومخالفات) إلا أن النية الحسنة وسلامة الطوية وعمق المأخذ وسلامة التفكير وتلمس مقاصد الإسلام الكريمة وأهدافه السمحة، كل ذلك سوف يكتب لهذه الاجتهادات الخلود والبقاء رغم ما يثار حولها من غبار طال الزمن أو قصر.. وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) سورة التوبة). ذلكم كان الشيخ، وتلكم كانت العقلية المستنيرة والبصيرة الثاقبة والآفاق الرحبة المترامية.. أما (جواهر الشعر).. هذا السفر الرائع الذائع الجميل، فقد وجدته بمنزلة الواسطة من العقد وبمكان الدرة من التاج أو كمثل النابغة في سواد الملأ.. إنه فريد الشعر ووحيده.. إلهامٌ يُلقى على ذهن الشاعر، فيترجمه بيتاً شارداً يبلغ الآفاق، ويلقى الحظوة والحفاوة ما يجعله يحتل من الكتاب ناصيته ومن المنتدى صدره ومن بيان الخطيب الوقفة المعجبة المطربة.. ولقد كتبت يوماً حول فريد الشعر: أنه عندما يريد المتحدث أن يدعم فكرته، ويريد الكاتب أن يلقي الضوء على قصده أو أن يريد المناظر أن ينتزع الانتصار أو يفحم الخصم.. فيأتي أيٌ منهم بالبيت أجيد سبكه، ونُغم جرسه، وشرُف معناه، وأحكم مبناه.. فيحل من ذهن السامع وأذنه محل القبس لخابط الدجنة، ومحل المؤشر لضارب بيداء التيه. كل الناس لقي من دهره ما لقي، واحتسى من حلوه ومره، وصافح من صنوفه وصروفه، فإذا وجد بيت الشعر أو قطعته.. تواسيه أو تسليه، أو تريه العظة والعبرة، أو الأسوة والقدوة، أو الشبه والنظير.. تنفس من خلالها الصعداء، واستجاب لنداء الفكر وثمرات التجارب.. وفي الشعر العربي من هذا الطراز نفحاتٌ وفرائد، في غاية الروعة والجمال والتأثير.. فيه كنوزٌ حفل بها عبر القرون، وجاءت شواهد ناطقة على ما لهذه الأمة من فكر أصيل، ضرب بسهمٍ وافر في تكوين الفكر العالمي عبر القرون المتعاقبة. ولست أصدر عن عاطفةٍ، ولا أحكم عن تأثير شعري، كمتذوقٍ يهزني جيد الشعر، ويبهرني منتقاه.. ولكني أتحرى قول الحق، وأحاول التجرد عما سواه عندما أؤكد، بعد منادمتي لهذه الجواهر الشعرية، أنني لم أكن أتوقع أن يكون الفكر العربي قد بلغ عن طريق الشعر هذا المبلغ.. عمقٌ في التفكير، ودقة في التعبير، وإحاطةٌ بتيارات الخواطر، وضروب الحياة، وتلون المجتمعات وتصوير البيئات، إلى ما هنالك من انتفاضات ذهنية، وتأملات كونية، وتعمق في سلوك الناس، وطبائعهم، وانفعالاتهم.. تتمثل في النكتة تنتزع الابتسامة من القارئ مهما كان ظرفه، وفي المثل يطبق المحز، ويصيب شاكلة القول، وفي الهجاء يقطع النياط في السخرية، في التلوين، في الغمز وفي المماحكة، في التعريض، في العظة والعبرة، وفي الخَلق، وفي الخُلُق، فيما يخطر ببالك، وما لا يخطر.. ولعلك تدرك حقيقة هذا حينما تكون لهذه الجواهر مسامراً، وحينما تستطعم نماذجها، وتتذوق مجانيها، وتجدك مشدوداً بعد كل نفحةٍ إلى أخرى، ومن كل نغمةٍ إلى ترنيمة، ومن كل أنشودةٍ إلى تغريدة تعيد لك ذكرى، أو تروي لك مجداً، أو تسبح بك في حلم، أو تنبه فيك عاطفة، أو تحملك على عزم، أو تصرفك عن خاطر، أو تعيش بين هذه وهذه متلذذاً مستطرفاً. هذه هي التي نالت من حفاوة العرب وعنايتهم المكان الأسمى، حينما كان الأدب غالياً، وحملته مجدودين.. يقول ابن نباتة السعدي - حسبما يروي ابن خلكان - ضرب على بابي رجلٌ فقلت: من؟ قال: سائلٌ من أهل المشرق، فقلت: اسأل.. فقال هل أنت القائل:(من الطويل) ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تنوعت الأسباب والموت واحدُ فقلت: نعم.. فقال: أروي عنك؟.. قلت: نعم. قال ابن نباتة: وبعد مدة ليست بطويلة تكررت القصة مع رجلٍ من أهل المغرب.. فبلغ هذا البيت مبلغه من المشرق والمغرب، في زمن ابن نباتة ووسائل التبليغ بدائية آنذاك، وأدوات النشر خطية، ولكن سوق الأدب رائجة وهبوبه مزعزعة. ومدرك قصب السبق، والمبرز في هذا الميدان، أبو الطيب المتنبي، تواتيه القريحة وينتشي عند مواصلة القريض، فيطلق البيت، يذهب مثلاً على ألسنة الناس، ويخلد خلود الدهر، فما هي القدرة التعبيرية، وما هو الوقت، وما هو حجم القول المرسل حينما تريد أن تقول لجاهلٍ أو متجاهل: أريد أن أقنعك بوجود النهار، وليس هذا فحسب، بل بمقالٍ مؤثر، ومنطقٍ لا يماحك في قبوله، اقرأ لأبي الطيب: (من الوافر) وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل ألا ترى أن المتنبي قد ألهم أيما إلهام، حينما ترك بيته هذا للناس مثلاً، وجعلهم في كل قضية تتطلب قولاً فاصلاً في هذا المعنى يفزعون إلى بيته؟!. وما يفيد البصر عند من لا يميز بين النور والظلمة، ولا بين الحق والباطل، ولا بين الجمال والقبح، ولا بين العلم والجهل، ولا بين مئات من هذه المتضادات، سواء أكان الإبصار فيها إبصار رؤية، أو بصيرة، في كل ذلك وغيره مما هو على شاكلته يعود الناس إلى بيت آخر لأبي الطيب: (من البسيط) وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلمُ ثم لو لززت عبقرياً مبرزاً مع نكرة بليد، ثم قلت: إن الأول أفضل من الثاني، فما هو المفهوم لهذا القول لدى العقلاء، وما هو رد الفعل له، وما هو القول الفصل في جملة مقتضية مفيدة ماذا يقول الشاعر؟: (من الطويل) ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا ولعل الدرب لا يطول بك، إذا انتقرنا لك بعضاً من نماذج معبرة تشفُّ عما قصدناه، وتومئُ إلى ما أردناه عبر أبواب هذا السفر الجليل: فمن واحد من فصول باب الحكمة تعال واقرأ معي للمتنبي: (من الطويل) وأتعب خلق الله من زاد همه وقصّر عما تشتهي النفس وجده فلا ينحلل في المجد مالك كله فينحل مجدٌ كان بالمال عقده ودبره تدبير الذي المجد كفه إذا حارب الأعداء والمال زنده فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ولا مال في الدنيا لمن قل مجده ولشاعرٍ آخر في الباب نفسه: (من الكامل) إن لم تكونوا مثلهم فتشبهوا إن التشبه بالكرام فلاحُ وللشاعر القطامي: (من البسيط) قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزللُ وفي باب الرثاء.. تعال اقرأ معي بعضاً مما قالته الخنساء في رثاء أخيها صخر: (من الوافر) ألا يا صخر إن أبكيت عيني فقد أضحكتني زمناً طويلا دفعت بك الخطوب وأنت حي فمن ذا يدفع الخطب الجليلا إذا قبُح البكاء على قتيلٍ رأيت بكاءك الحسن الجميلا وفي باب الزهد قول ابن المعتز: (من الطويل) نسير إلى الآجال في كل لحظةٍ وأيامنا تطوى وهن مراحلُ ترحل من الدنيا بزادٍ من التقى فعمرك أيامٌ وهن قلائل وما أقبح التفريط في زمن الصبا فكيف به والشيب للرأس شاعل ولشاعر آخر: (من الطويل) إذا كثرت منك الذنوب فداوها برفع يدٍ في الليل والليل مظلمُ ولا تقنطن من رحمة الله إنما قنوطك منها من ذنوبك أعظم فرحمته للمحسنين كرامةٌ ورحمته للمسرفين تكرم وفي باب الغزل العذري العفيف.. قول أبي القاسم القشيري: (من الطويل) سقى الله وقتاً كنت أخلو بوجهكم وثغر الهوى في روضة الأنس ضاحكُ أقمنا زماناً والعيون قريرةٌ وأصبحت يوماً والجفون سوافك وقول ابن الملوح (المجنون) في معشوقته ليلى: (من الطويل) تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابةٍ ولم يبد للأتراب من ثديها حجمُ صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم يكبر البهم وفي باب الفخر.. نقتطف بعض أبياتٍ من لامية السموأل: (من الطويل) إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداءٍ يرتديه جميلُ وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها فليس إلى حسن الثناء سبيل تعيرنا أنا قليلٌ عديدنا فقلت لها: إن الكرام قليل وما قل من كانت بقاياه مثلنا شبابٌ تسامى للعلا وكهول وما ضرنا أنا قليلٌ وجارنا عزيزٌ وجار الأكثرين ذليل ولأبي فراس الحمداني: ولو سد غيري ما سددت اكتفوا به وما كان يغلو التبر لو نفق الصفرُ ونحن أناسٌ لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر أعز بني الدنيا وأعلى ذوي العلا وأكرم من فوق التراب ولا فخر وفي باب المديح.. قال أبو طالب معرضاً بحمايته للنبي (صلى الله عليه وسلم): (من الكامل) والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا وفي مدح زين العابدين بن علي بن الحسين رضي الله عنه، ننتقر بعضاً مما قاله الفرزدق: (من البسيط) هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرمُ هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم وليس قولك: من هذا؟ بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم إذا رأته قريشٌ قال قائلها إلى مكارم هذا ينتهي الكرم أما في باب الهجاء، كفانا الله شره، لن نذهب بعيداً كي نلتقي الحطيئة وهو يهجو الزبرقان بن بدر: (من البسيط) والله ما معشرٌ لاموا امرأً جنباً من آل لأي ابن شماسٍ بأكياسِ دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي وفي باب الوصف.. قول بشار بن برد: (من الطويل) خليلي ما بال الدجى لا يتزحزح وما لعمود الصبح لا يتوضحُ أضل الصباح المستنير سبيله؟ أم الدهر ليلٌ كله ليس يبرح وطال علي الليل حتى كأنه بليلين موصولٌ فما يتزحزح وفي باب الشعر الديني.. قول عمرو القنا العنبري: (من الطويل) فلا خير في الدنيا لمن لم يكن له من الله في دار القرار نصيبُ وقول الأعشى في مدح رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (من الطويل) إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على ألا تكون كمثله فترصد للموت الذي كان أرصدا وأخيراً، وفي باب الشعر التعليمي.. قول الشاعر: (من الطويل) دعا المصطفى دهراً بمكة لم يجب وقد لان منه جانبٌ وخطابُ ولما دعا والسيف صلتٌ بكفه له أسلموا واستسلموا وأنابوا وأيضاً قول الشاعر: (من الكامل) الرب يغضب إن تركت سؤاله وبُنيُّ آدم حين يُسأل يغضبُ كل هذه النماذج أقتطفها اقتطاف المتعجل، ولم أتعمل في انتقائها أو أخذها على أنها العيون، وإنما هي حبات القلادة، ومن محتويات السمط.. ستعيش مع مثلها، ومع أجود منها عبر أبواب هذا الكتاب وفصوله المتنوعة المتشعبة.. من ناحيةٍ أخرى فقد أصاب الفرزدق كبد الحقيقة، حينما قال: لا يكون الشاعر متقدماً حتى يكون باختيار الشعر أحذق منه بعمله. كما أجاد وأفاد من قال: (من الطويل) ولله در الاختيار فإنه يبين فضل السبق من غير سابق فالشعر إلى جانب كونه ملكةً واستعداداً صاحبا تكوين الشاعر الذاتي، وفطرا معه.. فهو أيضاً رياضة نفس، وإدمان درس، ومعاناة، وحفظ، واستقراء، واستزادة، واستجادة.. لتتنمى الملكة، وينضج الاستعداد، وتثرى الحافظة، وتخصب لغة الشعر، ومقاييسه، وترسخ مصطلحاته.. فحفظ الشعر وتذوقه، ومن ثم اختياره، ونقده، واصطفاء الأجود منه.. مراحل تسبق قرضه، وتأتي موطنةً لإنتاج ثمينه، وجيده، حينما تتلاقى روافده، ويطيب غراسه.. والشعر له صيارفةٌ يستعملون الحاسة السادسة في نقده، وتذوقه.. وبقدر محصول الإنسان من جيده، ومحفوظه من رصينه ومتينه، ومعاناة دراسته، وإدمان استقرائه.. بقدر كل ذلك تكون ملكته في نقده مؤاتية، وحاسته واعية صافية.. وإذا صادف هذا طبعٌ شاعري، وخاطر لماح، ورغبة مشوقة.. فقد تكاملت مادة الاختيار، وتوفرت عناصر النقد.. والأمر بعدئذ في تصنيف اختياراته أمرٌ نسبي، فضروب القراء وأذواقهم، واتجاهاتهم، ومحصولهم الثقافي.. متباينة، فكلٌ منهم يحركه جانب، ويعلق بذهنه معنى، ويهمه ضرب من الضروب.. فقد يستجيد فرد أو أفراد من الرواة بيتاً، أو أبياتاً من الشعر، لا يوافقهم الآخرون على استجادتها.. والحكم في ذلك - من قبل ومن بعد - لمن يحمل مؤهلات الاختيار، ويتوفر لديه الذوق السليم، والحاسة المدركة، وتتلاقى أحكام الأكثرين على علو كعبه، واستعداده وتبريزه. ولقد كان لتلك الشوارد والشواهد الشعرية دورٌ كبير في حياة العرب السياسية، والعسكرية، والاجتماعية، والثقافية.. كان البيت يغير مجرى حياة جيل، ويقيم أوار حرب، ويحط قبيلة ويرفع أخرى، ويحوِّل عزماً، ويقحم آخر.. وكانوا إذا استجادوه حكموا للشاعر بالتبريز من أجله، أو حكموا على أنه أحسن ما قيل في بابه، ومن أجل ذا قالوا: (من السريع) أحسن من خمسين بيتاً سدى جمعك معناهن في بيت ولقد كان عجز بيتٍ لعمر بن أبي ربيعة مهمازاً بين يدي نكبة البرامكة يردده الرشيد ليله كله: (من الرمل) إنما العاجر من لا يستبدْ فكان ما كان بعده وكان الفرار ما عزم عليه معاوية في صفين، حتى تذكر قول ابن الإطنابة: (من الوافر) أقول لها وقد جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي فكرَّ بعد العزم على الفرار، وثبت واستبسل. وما أباد السفاح بني أمية في مجلسه، إلا قول سديف: (من الخفيف) لا تقيلن عبد شمسٍ عِثارا واقطعنْ كل رقلةٍ وغراسِ خوفهم أظهر التودد فيهم وبهم منكمُ كحزِّ المواسي وقصة زفر بن الحارث، وعبد الملك بن مروان، حول قول زفر: (من الطويل) وقد ينبت المرعى على دمن الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هيا قصة مشهورة مذكورة.. وبيت جرير في بني نمير، وبيت الحطيئة في بني أنف الناقة، وبيت الأعشى في آل المحلق، وبيت أبي حفصة في شيبان، وبيت قريط بن أنيف في مازن، وبيت ابن دارة في فزارة، وبيت الطرماح في تميم، وبيت حسان في قريش، وبيت جرير في حنيفة.. أبياتٌ وشعراء لها مكانتها المعروفة في الأدب العربي.. وأبياتٌ أخرى كان للإسلام موقفه الإيجابي منها: (من الطويل) ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيمٍ لا محالة زائلُ هذا قال عنه النبي عليه السلام: «إنه أصدق كلمةٍ قالها شاعر».. ولما قال النابغة الجعدي: (من الطويل) بلغنا السماء مجدُنا وجدودُنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا قال عليه السلام: «إلى أين يا أبا ليلى؟» قال: إلى الجنة يا رسول الله قال عليه السلام: «إن شاء الله».. ثم قال بعد إكمال قصيدته: «لا فض الله فاك» على ما يروى. وشفع شعر كعب لكعب، بعد إهدار دمه، وشفع شعر الحطيئة له عند الفاروق بعدما ألقاه في قعر مظلمة.. ولما أنشدت قتيلة بنت الحارث قصيدتها في النبي عليه السلام بعد قتل أخيها، وجاء في قصيدتها هذا البيت: (من الكامل) ظلت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحامٌ هناك تمزقُ قال عليه السلام - فيما يروى - «لو سمعت هذا قبل قتله ما قتلته».. وفي كتاب «بهجة المجالس» لابن عبد البر قال: قال محمد بن سلام الجمحي عن ابن جعدبة قال: ما أبرم عمر بن الخطاب أمراً قط إلا تمثل فيه ببيت شعر.. وقال محمد بن علي بن عبدالله بن عباس: كفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمثل.. وروي عن مخلد بن يزيد، عن جابر بن معدان قال: كل حكمةٍ لم ينزل فيها كتاب، ولم يبعث بها نبي، ذخرها الله حتى تنطق بها ألسن الشعراء.. ويضيق المقام عن الاسترسال في هذا المجال، وإلا فمادته خصيبة، ومعينه ثر، ومرادي من إيراد هذه النماذج الإشارة إلى الأهمية التي تحملها شواهد الشعر وشوارده.. وفي الختام.. وأنا أنحني ظامئاً لأعب من مجج هذه اللجج الشعرية الثرة، وأغوص متشوقاً لأجني وبكل لهفةٍ ما احتواه (جواهر الشعر) من درر.. ليس لي إلا أن أتوجه بجزيل الشكر وعظيم الثناء لفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبدالله بن زيد آل محمود على هذا الجهد الرائع وهذه الأريحية والوقفة الصادقة الوفية لإبراز هذه الجواهر بعد انتشالها من غياهب الاختباء القسري، كما أتوسل كل جليسٍ أتاح له الزمان أن يتواصل مع محتويات هذا السفر الفريد، أن يدعو الله من الأعماق لأستاذنا وشيخنا العلامة عبدالله بن زيد آل محمود، يدعو له بالرحمة والمغفرة وحسن المآب مع الأبرار والصديقين، وأن يجعل من هذا الإرث الفكري الجليل وهذا المدد الثقافي اللامتناهي، في موازين حسناته الممتدة عبر عقودٍ من الإحسان وصالح الأعمال.. وما هذه المقدمة إلا إطلالة وفاء، ووقفة برٍ ومحبة واصطفاء لشيخٍ وأديب وعالم وفقيه قلما يجود العصر بأمثاله من الرجال المؤمنين الذي صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. والله لا يضيع أجر المحسنين.