بعد حياة حافلة وسباق مع الزمن في مضمار الأمن الذي أحرز قصب السبق فيه ترجل الفارس الأمني المغوار اللواء جميل محمد الميمان مدير الإدارة العامة لمكافحة المخدرات - ورئيس لجنة الشؤون الأمنية بمجلس الشورى سابقاً - نعم لقد ولج الميمان باب الآخرة بنفس مطمئنة راضية مرضية - بإذن الله - في يوم الخميس 5-5-1427ه عن عمر يناهز 69 عاماً. وإذا كان لكل من اسمه نصيب، فإن اللواء جميل - رحمه الله - جميل في سجاياه، عفويته، غضبه، فيما يغضب الله قسوته في العدل.. مستشهداً بالحكمة القائلة: (عين الرحمة في قسوة العدل)، لقد كان أبو فريد فريداً من نوعه في زمن تمازجت فيه ألوان الطيف كلها، كان يصمت إذا تحدث الآخرون ويتحدث إذا صمتوا، إذا تحدث أمتع، وإن جادل أقنع، لسانه رطب بذكر الله، محب للأدب والأدباء، يمقت التملق والنفاق وشديد البغض للقطط السمان، وهراطقة التنطع الذين يتنكرون لشموخ الأنفة وهدف الرسالة، ويهوون بأنفسهم في مستنقعات الرذيلة والفساد.. جميل الإنسان المفكر القائد؛ جميل في شموخه، في تواضعه في طرحه لقضايا مجتمعه، في شجاعته الأدبية، في مناصحته لولاة الأمر، في آماله وآلامه كلها، في نبض قلبه الكبير بالحب والعطاء وتدفقه لكل الناس دون تمييز عرقي أو طائفي، فالدين دين الله والوطن للجميع. جميل صاحب القلب الكبير، ولعمري فإن أصحاب القلوب الكبيرة يموتون بحزن بسيط! جميل الميمان رجل أمن وطني صرف، لم يتخذ من رسالته ولا مناصبه العدة هدفاً للوصول إلى الأنا البغيضة.. عاش شامخاً يرنو إلى الأفق البعيد ويستقرئ المستقبل لأجيال هذا الوطن المتوشح براية التوحيد.. ولعل من محاسن القدر أن هذا الراحل بهيبة وصمت قد ترك لنا ولأجيالنا الحاضرة والقادمة (كنزاً) كبيراً بل (منجماً) من خلال ما دونه - رحمه الله - في إصدارين متتاليين بعنوان: (ذكريات ومذكرات) عبر هادفة دوّن في ثناياها تجاربه الأمنية لفترة ثلاث وأربعين سنة.. هذه التجارب التي تقشعر منها الأبدان وترتعد لها الفرائص لكل ذي لب، ومن لم يتعظ بغيره وعظ الله به غيره... ومع هذا فهي لا تخلو من المُلح والطرائف من منطلق شر البلية.. ولأن جميل الميمان كان زاهداً في متاع الغرور، فكان على الغلاف (وقف لله تعالى) على الرغم من العروض التي تلقاها من دور النشر التي تسيل لها اللعاب بشهادة كاتب هذه السطور.. وهذه المؤلفات عصارة فكر وحصيلة تجارب في ميدان الأمن مع عتاة المجرمين من مهربين ومروجين وممونين تزول من مكرهم ودهائهم وعتادهم الجبال.. قبل شهر من وفاته - رحمه الله - كان يتبادل الآراء مع الفقير إلى الله كاتب هذه السطور حول الخطوط العريضة لإصدار مؤلفه الثالث من هذه السلسلة (ذكريات ومذكرات)، وكانت هذه النقاشات تتم بصوت أجش منخفض في ركنه الذي يقبع فيه دائماً مسبحاً حامداً موحداً مكبراً مستغفراً متوشحاً بالخشوع تغشاه الهيبة والوقار في آن وتحفه العناية الإلهية في مسجد (عمر بن الخطاب) جوار منزله بحي المحمدية بالرياض.. هذا المسجد (الميمون) الذي أصبح نقطة لقاء بهذا الرجل المحسن لكل من تكالبت عليه الظروف وأرهصته الهموم وغلقت في وجهه الأبواب، وقلت حيلته وعميت بصيرته في شتى خطوب الحياة ومنغصاتها، فكان يجد في أبي فريد الواحة الوارفة الظلال في هجير الصحراء ليستنشق من خلالها نسمة عليلة في فيض الحياة أو ينعم بدفء تحت جوانحه من صقيع الهجير.. كان أبو فريد أو أبو المساكين يستقبل هؤلاء البشر على مختلف قبائلهم أو جنسياتهم أو.. أو.. كعادته الجميلة.. يستقبلهم هاشاً باشاً دون تكلف يقضي حوائجهم أو يشفع لهم دون مساس بحقوق الآخرين (كالواسطة الممقوتة) يتبادل مع الجميع الحديث الودود، يتوج ذلك بكرم حاتمي وأريحية مغداقة على رغم (ضيق اليد)؛ فهو ذو كف نظيف.. وما أحوجنا إلى هذا الطراز من الرجال الأفذاذ، ولا شك أن الخير في هذه الأمة إلى قيام الساعة كما قال المصطفى عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم.. لقد كان الهم الوطني هو ديدن الفقيد رحمه الله.. في إصداره الثاني (ذكريات ومذكرات) ص (6-7-8)، فقد ورد فيه: إذ قال رحمه الله: إن العبرة في توفير الأمن والاستقرار السياسي لا تكمن فقط في الأعداد المهولة من رجال الأمن والأسلحة والأجهزة التقنية والملاحقة والقمع، وإنما في تحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة ومكافحة أسباب الانحراف كلها والفساد الإداري واختيار قيادات أمنية كفؤة وواعية ومخلصة قادرة على التخطيط السليم، والمحافظة على المال العام وصرفه في أوجه التنمية في عموم مدن وقرى المملكة بعدالة دون محاباة أو تفضيل.. وبذلك نسلم من الأحقاد والضغائن ونقضي على الأسباب التي تؤدي إلى زعزعة الأمن ونشر الرذيلة في البلاد، وأن تكون المراجع رموزاً وقدوة لكسب الولاء والاحترام.. كما دعا رحمه الله إلى تفعيل دور جهاز المراقبة العامة وهيئة الرقابة والتحقيق وديوان المظالم واختيار قيادات حازمة وقوية لهذه الأجهزة، والنظر فيما يقال عن القضاء ومعالجة وضعه، وتشكيل مجلس شورى منتخب فاعل تكون قراراته ملزمة، وإعطاء مساحة واسعة للتعبير وحرية الرأي.. وإعادة النظر في الحصانة الدبلوماسية، وقصر ذلك على الحقيبة التي يحملها الدبلوماسي المعتمد في يده فقط، ولا تشمل الأمتعة و(الكونتيرات) المملوءة بالمخدرات والخمور والأسلحة، ولا تشمل أيضاً حقائب كبار الأمراء والوزراء وعوائكهم ومرافقيهم وخدمهم وحشمهم و.. و.. إلخ.. بل تقتصر على الحقائب اليدوية فقط للأمراء والوزراء ولا تشمل العوائل والمرافقين.. كما ينبغي تفعيل دور أمراء المناطق والمسارعة في الإصلاحات بجدية قبل استفحال الأمور وتدخل الجهات الأجنبية في أوضاعنا الخاصة ونفقد سيادتنا على وطننا وثرواتنا التي أنعم الله بها علينا؛ لأننا مستهدفون في ديننا وفي ثرواتنا وفي وطننا العزيز. وقد أشار اللواء جميل - رحمه الله - في ص48 من كتابه إلى أنه في إحدى مناسبات الحج تشرف بالسلام على خادم الحرمين الشريفين الملك فهد - رحمه الله - فقال له الملك وهو يبتسم: (يا جميل شيبتك الشرطة أنت تحتاج إلى ترميم) ثم قدمه الملك فهد إلى سمو ولي العهد - آنذاك - الملك عبدالله يحفظه الله وسمو الأمير سلطان وقال الملك فهد موجهاً كلامه لهما: (أنا أعرف اللواء جميل منذ كان ملازماً في شرطة مكةالمكرمة وأنا وزير الداخلية والناس تقول: الميمان الميمان). في ص127 دعا اللواء الميمان - رحمه الله - إلى فصل الإدارة العامة لمكافحة المخدرات عن الأمن العام وربطها مباشرة بسمو وزير الداخلية وسمو نائبه ومساعده، وأن تعقد اجتماعات دورية برئاسة سمو وزير الداخلية للتغلب على كل ما يواجهه منسوبو المخدرات من صعوبات واختتم بقوله: (اللهم إني بلغت اللهم فاشهد). وقد اختتم اللواء جميل الميمان في نهاية كتابه ص200 السلبيات الخطرة على (الأمن الوطني)، وقد ذكر الآتي: 1- المخدرات هي المحرك السحري والدافع لارتكاب أفظع الجرائم. 2- إشاعة الفوضى والهمجية في المجتمع والإخلال بالأمن. 3- وقوع حوادث السير وتدمير المنشآت الاقتصادية تحت تأثير المخدر. 4- الإرهاب ومقاومة رجال الأمن بالسلاح واغتيال الرجال الشرفاء المخلصين في مكافحة المخدرات وسلاح الحدود عند قيامهم بصد عمليات التهريب أو مداهمته أوكارهم للقبض عليهم متلبسين بالجرم المشهود. 5- استغلال المدمنين في تنفيذ المخططات الإجرامية، من اغتيال وتفجير وتدمير مقابل تزويدهم بالجرعات المخدرة التي يعتادون تعاطيها. 6- استغلال المدمنين من المدنيين والعسكريين والعمال والمستخدمين في الدوائر والجهات المهمة في تنفيذ العمليات الخطرة التي تستهدف الأمن الوطني، مقابل تزويدهم بالجرعات المخدرة وكذلك حملهم على البوح بأسرار الدولة أو الجهات التي يعملون فيها. في ص201 ذكر اللواء الميمان - رحمه الله - بقوله: إن كان هناك من يزعم أن المخدرات في المملكة مجرد ظاهرة وآخذة في الزوال، فهذا الزعم خاطئ ومردود على صاحبه وفيه تضليل لولاة الأمر والمواطنين والدليل على ذلك هو توافر المخدرات وسهولة الحصول عليها وتدني أسعارها.. - ما ينفق على مكافحة وتهريب وترويج المخدرات وعلاج المدمنين وإعاشة السجناء ورعاية أسرهم يقدر بمبلغ أربعة مليارات ريال سنوياً. - ثبت بالدليل القاطع الذي لا يرقى إليه الشك من خلال الإحصاءات والدراسات الدقيقة أن معظم جرائم القتل والسرقة والسطو على البنوك والمصارف والمحلات التجارية المهمة وقطع الطرق والخطف والاغتصاب والاعتداء على الأعراض، والحوادث الجنائية كلها، وحوادث المرور المفجعة في المملكة؛ كانت المخدرات السبب المباشر في ارتكابها وما خفي كان أعظم. اللواء جميل محمد الميمان في سطور 1- من مواليد الطائف عام 1358ه. 2- تخرج من مدرسة الشرطة بمكةالمكرمة عام 1374ه برتبة ملازم. 3- ترأس إدارتي التحقيقات والحقوق المدنية ومعظم أقسام الشرطة بمكةالمكرمة لفترة عشر سنوات، ثم عين مساعداً لمدير شرطة الأحساء، فمديراً لشرطة الدمام ثم مديراً للمباحث العامة بمنطقة المدينةالمنورة، فمديراً لإدارة الضبط الجنائي بالأمن العام، ثم مديراً عاماً للإدارة العامة لمكافحة المخدرات، وقائداً لقوات أمن الحج، بالإضافة إلى عمله في إدارة مكافحة المخدرات. 4- منح بأمر ملكي وسام التقدير العسكري من الدرجة الأولى ووسام الملك فيصل ووسام الملك عبدالعزيز. 5- عين بأمر ملكي عضواً في مجلس الشورى بتاريخ 3-3-1414ه وقد انتخب رئيساً للجنة الشؤون الأمنية. 6- عين مديراً عاماً للمؤسسة الثقافية الإسلامية بجنيف، وممثلاً لرابطة العالم الإسلامي لدى الأممالمتحدة. 7- أشرف على مركز الملك فيصل الثقافي الإسلامي في مدينة بازل السويسرية. 8- رئيس مجلس إدارة الأندية الثقافية الإسلامية الرياضية بجنيف. تلقى عدة دورات أمنية في كل من بريطانيا - أمريكا - ودول أخرى، وشارك محاضراً في كلية الملك فهد الأمنية، وجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، وشارك في مناقشة رسائل الماجستير في المعهد العالي بجامعة نايف. وشارك كأستاذ زائر في معهد الإدارة العامة بالرياض. (المؤلفات) ألف عدداً من الكتب منها: 1- أهمية معاينة مسرح الجريمة وعامل الزمن في الإجراءات الجنائية. 2- (الوسائل العلمية الحديثة) وهو ضمن مقررات المعهد العالي للدراسات الأمنية بكلية الملك فهد. 3- صفات المحقق الناجح. 4- مناطق زراعة المخدرات في العالم. 5- جهود المملكة في مكافحة المخدرات. 6- غسل الأموال الناتجة من تجارة المخدرات. رحم الله فقيد الوطن وابنه البار اللواء جميل محمد الميمان، فقد كان علامة مضيئة في سماء هذا الوطن وأحد الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وكان جريئاً في قول الحق لا تأخذه في الله لومة لائم، نظيف الكف، يزهو به الشرف، كان يمقت العصبية والنزعة الإقليمية، باراً بوالديه، كريماً، سخياً لمحتاجيه، واصلاً ًلرحمه، مخلصاً لدينه ووطنه وأمته، وكان آخر كلمة سمعتها منه عندما هاتفته وهو على السرير الأبيض بمستشفى الحرس الوطني: (ادعُ لي يا ولدي).. وبدوري أدعو القراء الكرام إلى الدعاء لفقيدنا وفقيد الوطن المرحوم - بإذن الله - جميل محمد الميمان، وعزاؤنا إلى زوجته رمز الوفاء والإخلاص ربة الصون والعفاف الشريفة (سعاد حماد الإدريسي) وابنه سعادة العقيد فريد جميل الميمان وبناته وكل محب لجميل الجميل.. وأستغفر الله من زلة زل بها اللسان أو ند بها قلم.. رحمك الله يا أبا فريد.. والحمد لله من قبل وبعد..