تغير العالم كلية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1990 لا سيما بعد أن ظهرت على أنقاضه دولة عظمى آحادية قطبية وحدية تهيمن على العالم وسياسات العالم واقتصاد العالم، وبعد أن مضى عقد واحد من الزمن على القطبية الأحادية الأمريكية، وتحديدا في عام 2001م، تغير العالم مرة أخرى تغيرا جوهريا وكليا وإلى تأطير وتأكيد الهيمنة الأمريكية على العالم وذلك بفعل أحداث 11 سبتمبر الإرهابية وبلوغ ظاهرة الإرهاب مرحلة الظاهرة العالمية التي منحت واشنطن الضوء الأخضر للتحرك كيفما تشاء وأينما تشاء وتمارس ضغوطها على من تشاء، بل وشجعتا على التدخل في الشؤون الداخلية لمعظم دول العالم الثالث. الأوضاع الجيوستراتيجية والأمنية الاقليمية والدولية الجديدة التي ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتشكلت بفضل السياسة الأمريكية العالمية لمحاربة الإرهاب ونشر الديمقراطية ومنع الدول المشكوك في أمرها من الحصول على أسلحة دمار شامل، وضعت واشنطن في كرسي الزعامة الدولية، ولكن الأكثر أهمية وصول الدول الكبرى الأربع الأخرى (بريطانيا، فرنسا، الصين الشعبية، روسيا الاتحادية) مع الدولة العظمى (الولاياتالمتحدةالأمريكية) إلى بناء ومن ثم تشكيل منظومة مترابطة من المصالح السياسية والأمنية المشتركة، ومن المنافع العسكرية المتبادلة، تحديدا بموجبها تم وضع صيغة من التفاهم السياسي والأمني والعسكري المشترك فيما بينهم خصوصا بينهم وتجاه دول العالم الثالث. التغيرات التي طرأت على العالم الجديد بفعل أحداث 11 سبتمبر الإرهابية وما تلاها من تطورات وتداعيات ومخاطر أمنية لم تسلم منها معظم دول العالم ولكن بسببها وضعت دولا كثيرة تحت الوصاية الدولية من جديد، وثبتت دولا أخرى تحت المجهر، كما وأوصلت دولا ثالثة إلى مرحلة اللاعودة، وبالطبع بفضل فكر الإرهاب وسلوكياته والمخاوف الدولية وتحديدا الغربية منه فقدت الثقة وانعدمت المصداقية من غالبية الدول الإسلامية ومن دفع الثمن الغالي هم الأقليات المسلمة التي تعيش في العالم الغربي. نتيجة أخرى أن حالة انعدام الثقة وتنامي المخاوف وارتفاع مستويات أزمات الشك وقلة اليقين حرمت دول أخرى (كإيران) على سبيل المثال من حق تطوير برامجها النووية تحت ذريعة أن تستخدم من قبل المتشددين والمتطرفين ضد العالم الغربي. رغما عن تلك التطورات والحقائق التي باتت تشكل حقيقة السياسات والعلاقات الدولية والاقليمية تحاول إيران تغيير ذلك الواقع الدولي المفروض عليها (حتى ولو جزئيا) عن طريق اللعب الحذر على بعض المتناقضات الأخلاقية والقيمية والحضارية الإنسانية التي تتميز بها السياسة الأوروبية عن السياسة الأمريكية، في ذات الوقت تسعى طهران للمراهنة على وجود نوع من تعارض في بعض المصالح الحيوية والقومية خصوصا بين روسياوالولاياتالمتحدةالأمريكية، أخيرا تعمل إيران على تفعيل مؤثرات الصمت الصيني، وكذلك السلبية الصينية خصوصا في التعبير عن موقفها تجاه إيران بغية تجييره لصالحها، وأيضا لخلق ثغرة سياسية بين منظومة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي. من جانبه يدرك العالم الغربي تماما ما تهدف إلى تحقيقه إيران، وايضا لما ترمي الوصول إليه من غايات باقتفاء أثر كوريا الشمالية تحديدا واستغلال وجود الملف الكوري النووي العالق (فكوريا تعد في قلب الهندالصينية وتهدد بقدراتها النووية أمن واستقرار اليابان) على محصلة الخلاف الداخلي في مجلس الأمن الدولي. لكن المخاطر النووية الكورية ليست على مستوى الخطر النووي الإيراني ليس وحسب لكون كوريا الشمالية تعد تحت مظلة النفوذ الصيني وعدم استعدادها لإثارة حرب نووية إقليمية وعالمية، وإنما لما تمثله إيران في العرف الغربي والأمريكي بل وحتى الروسي من تهديد لأمن واستقرار إسرائيل وللمصالح الغربية بل وحتى والدولية نظرا لشدة التطرف في العقيدة السياسية الإيرانية والتصلب الدوجماتي الإيراني في تنفيذ تلك السياسة خصوصا مقومات قوته من جانبه العقدي. لذلك وضعت كل من واشنطن وتل أبيب مخططات عسكرية وأمنية إستراتيجية بديلة للتعامل مع الملف النووي الإيراني فيما لو وصلت المحادثات السياسية والدبلوماسية السلمية إلى طريق مسدود مع طهران.. أو فيما لو بلغ الوضع السياسي والأمني السلبي ذروته ببلوغه إلى مستوى حافة الهاوية العسكرية. تل أبيب في عهد شارون وتحدديا في شهر يونيو من العالم الماضي 2005م، أجلت إلحاق ضربة عسكرية صاروخية وجوية إستباقية للمنشآت النووية الإيرانية، وأخرى لشل القدرات الهجومية الإيرانية، بل ولكي يتم وضع النقاط على الحروف وتفعيل القرار السياسي وتنفيذه بالعمليات العسكرية أجرت القوات الإسرائيلية تمارين مكثفة على مواقع مشابهة تماما لموقع الهدف الإيراني باستخدام قنابل خارقة للكتل الإسمنتية والحديدية تحملها طائرات هجومية من طراز (أف 15)، وتضمن تكتيك الهجوم الإسرائيلي إرسال قوات خاصة (كوماندو) إسرائيلية يطلق عليها مسمى (شالداج) (أو ملك الصيادين) لتدمير الهدف الإيراني على الطبيعة.. لكن الضربة أوقفت بأمر من واشنطن. وواشنطن بدورها وضعت خطة عسكرية إستراتيجية شاملة ومتكاملة لضرب المنشآت النووية الإيرانية ولمنع إيران من ضرب الأهداف والمصالح الغربية في المنطقة، لكن بعد أن تأخذ الضوء الأخضر من الدول الكبرى خصوصا من الاتحاد الأوروبي، القضية بالنسبة لإسرائيل وللعالم الغربي قضية حياة أو موت أكثر مما تعني توسعة أعداد الدول الأعضاء في النادي النووي التي لابد وأن يترتب عليها حدوث تغييرات كمية ونوعية في معدلات توازن القوى الاقليمي والعالمي الأمر الذي يؤثر بخطورة في إستراتيجية توازن المصالح. وكان الإتفاق أن تجري محادثات رسمية وغير رسمية مع إيران (التي استمرت قرابة سنة ونصف) يخوضها عدد كبير من الدبلوماسيين والأكاديميين والمختصين في العلاقات الدولية شارك فيها بالفعل أطراف إيرانية وأطراف أخرى غير إيرانية من مختلف أنحاء العالم خصوصا من أوروبا وأمريكا، بل وحتى من إسرائيل. في تلك المحادثات جرت عمليات نقل رسائل سياسية وأمنية وعسكرية متبادلة وأيضا تصورات لحلول مختلفة وصلت إلى حد تصريح البعض من المشاركين بحتمية استخدام القوة العسكرية ضد إيران إن تطلب الأمر لمنعها من المضي في تطوير برنامجها النووي الذي يعتبر بالمقاييس الغربية والإسرائيلية خطرا إستراتيجيا يهدد أمنهم القومي. وعلى ما يبدو أن جميع المحادثات والمناوشات السياسية والدبلوماسية فشلت ووصلت إلى طريق مسدود مما يعني أن واشنطن تنتظر الضوء الأخضر للهجوم، وإسرائيل أيضا تنتظر الضوء الضوء الأخضر من واشنطن التي أكدت بأنها لم تعطي الضوء الأخضر للهجوم الإسرائيلي المتوقع على إيران، ولكنها في حال فشل الدبلوماسية السلمية من إقناع إيران بوقف برنامجها النووي، فإنها لن تقف في طريق الهجمة الإسرائيلية بل ولن تمنعها حين تبدأ. أخيرا لاشك أن الرهان الحالي على النتيجة النهائية لتطورات وتداعيات الملف النووي الإيراني مختلف بين جميع الأطراف اللاعبة والمعنية به، الطرف الإيراني لازال يراهن على بروز ثغرات في بعض المواقف للدول الكبرى، أو حدوث تراجع تكتيكي في مواقف دول أخرى يعيق تحقيق الإجماع الغربي ضده، ومن جانب آخر فإن الرهان الأمريكي - الإسرائيلي قد بلغ ذروته بعد تحطم الحلول السلمية على صلابة الموقف الدوجماتي الإيراني - أما الرهان الأوروبي فلازال رهانا قائما على فرضية حدوث مرونة إيرانية في التعامل مع ملفها والتوصل معها لحل تقبل به مقررات الدولية خصوصا بعد أن أحيل ملفها لمجلس الأمن الدولي. إن من يمتلك الرؤية الواقعية للواقع السياسي والعسكري الدولي الحالي أي في تطورات الوضع الرهن الذي يقارب بين مواقف الدول الغربية وكل من روسياوالصين لابد وان يكسب رهان الملف النووي الإيراني فيما حتما يخسر الرهان الطرف الذي يراهن على احتمالات ضعيفة وأخرى ركيكة تقل نسبة حدوثها عن الخمسين في المائة. الواقعية السياسية تقول بل تؤكد في حال فشل المحادثات السلمية والدبلوماسية مع طهران أن المنشأت النووية الإيرانية ستقصف بضربات استباقية أمريكية وإسرائيلية مشتركة.. وأن معظم المقومات العسكرية الإيرانية سيتم تحييدها وشلها بضربات أخرى صاروخية وجوية، الوضع العام للمنطقة لن يكون خطرا مدمرا في حكم ألا نكون، فالقضية برمتها باتت مرهونة كلية بمن يقرر أن نكون أو أن لا نكون، نعم نعم ذلك هو السؤال الأخير.