لفت نظري مقال كتبه أحد أعلام الثقافة والأدب وضمّنه حديثاً عن أم غير مسلمة وما تعانيه من جفاء أولادها وبعدهم عنها في حين هي في أشد الحاجة لهم. ولما علمتْ تلك المرأة ما تتمتع به الأم المسلمة من تكريم وبر من أولادها جميعاً قالت بحرقة: (ليتني ولدت امرأة مسلمة لأحظى ببر أبنائي وبناتي بي)، ويمضي صاحب المقال في وصف حالة تلك المرأة ومعاناتها إلى أن يصل إلى أنها قالت: إنني لا أطيق أن أعلن إسلامي الآن، لأنني لو فعلت ذلك لجفاني المجتمع كله وليس أولادي فقط!! هذه واحدة من النساء غير المسلمات تعيش حياة الأمومة في شقاء. أما الأم المسلمة فقد أكرمها الإسلام وجعل لها مقاماً كريماً وقدراً عالياً. ولننظر إلى بعض الآيات الكريمة في القرآن الكريم التي بينت مكانة الأم وعظم حقها على بنيها وعلى المجتمع بعامة لنجد فيها السمو في أبهى معانيه، والنبل في أروع صوره، والوفاء في أجود حالاته. الآية الأولى: قال الله تعالى {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ}.. يمنُّ الله على موسى عليه السلام أن ردّه إلى أمه لترضعه الحنان مع الحليب، والبر مع كل لقمة غذاء، ولكي تشبع رغبة عنده كما أنها رغبتها الفطرية، ولكي نعرف أن الأم لا بديل لها.. وأن الأم السوية ترتبط بأولادها ارتباطاً قوياً يسير معها في كل مراحل حياتها، ومهما كبر الابن والبنت يظل لكل منهما مكانة في عاطفة أمه ومشاعرها حباً له وشفقة عليه وخوفاً، وغيرة عليه أن يهان أو يضام. الآية الثانية: قال الله تعالى {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ}.. فقد كان الظهار معروفاً في الجاهلية، فإذا قال الرجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي حرمت عليه وصار ما قاله طلاقاً! فجاء الإسلام ليبطل ذلك ويقرر أن الزوجة تبقى زوجة، والأم أماً ولا يمكن أن تتغير طبيعة كل منهما.. وأنا أفهم من هذا أن للأم مقاماً رفيعاً ولها حقوق ليست للزوجة.. كما أن للزوجة حقوقاً تخصها وتنقطع بعض تلك الحقوق إذا وقع الطلاق بين الزوجين بخلاف حقوق الأم فهي لازمة لا تنقطع مدى الحياة والله تعالى أعلم. الآية الثالثة: قال الله تعالى {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}، (14) سورة لقمان. الآية الرابعة: قال الله تعالى {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا}، (15) سورة الأحقاف. وفي هاتين الآيتين تذكير للإنسان بأن أمه قد واجهت مصاعب جمّة في حمله ثم في ولادته، وقد تصل تلك المصاعب إلى مشارفة الموت - وهي في الجنة إن ماتت أثناء الولادة كما قرّر الفقهاء وأكدت ذلك الشريعة الإسلامية- فإذا كانت الأم قد واجهت تلك المصاعب أفيليق بذلك المولود أن ينساها ولا يرد لها بعض المعروف ويقدم لها إحساناً وبراً يليق بمقامها ومكانتها؟! بلى إنها لتستحق بذل الغالي والنفيس ودوام البر والإحسان. ويزداد يقيننا بأهمية بر الوالدين ويتضح لنا السر في وصية الله تعالى به في قوله {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا}، (15) سورة الأحقاف، حينما نعرف أن بر الوالدين دينٌ إن بذلناه لوالدينا بذله لنا أولادنا، فلن يضيع أثر البر في الدنيا ولا في الآخرة. كما أن أثر العقوق يكون في الدنيا قبل الآخرة. هذه لمحة خاطفة عن تأكيد الإسلام على حقوق الأم، وهو شيء لا تعرفه نساء الغرب، ولذلك تعيش الأمهات في حسرة وحرمان في ظل مجتمعات تنظر للمرأة نظرة مادية شهوانية تدعو إلى التمتع بها فترة من الزمن ثم رميها لتكون من سقط المتاع ولا يلتفت إليها أحد. ومن أبرز خصائص تلك (الحضارة) قطع الصلة بين الابن والبنت ووالديهما في سن معينة، ثم تقرر تلك (الحضارة) عيداً للأم، يوم في السنة تلاقي فيه أبناءها وبناتها لقاءً صورياً تغلب عليه المجاملة والتكلف، ثم يعقبه حسرة عام كامل لا يُحْسِنُ لتلك الأم الباسئة إلا دُور العجزة والملاجئ!! ولا بد أن نؤكد هنا أنه بمقدار فقه المجتمع المسلم وفهمه لتعاليم الدين تكون سعادته وتتميَّز أَصَالته، فيُحِبُّ المرء والديه بمقدار معرفته لحقوقهما وأثرهما في حياته وبعد مماته، ويكسب الآباء والأمهات حب أولادهم بمقدار ما علموهم وغرسوا فيهم من معاني المحبة والوفاء والصلاح والتقوى.. ونحن نعرف أن ذلك لا يخرج عن القاعدة المشهورة (النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها).. وانطلاقاً من ذلك ينسى الابن وتنسى البنت أهلها في المجتمعات الكافرة لأنهم لا تجدون أثراً لتربيتهما ولا يرون أن لهما دوراً في بناء شخصياتهم الدينية والاجتماعية.. ويعرفون جيداً أنه لا وجود لجد أو جدة في حياتهم، إذ أن الأب والأم لا صلة لهم بوالديهم، ولربما أن الأطفال لم يروا من يقال إنه آباء آبائهم!! وما دامت هذه هي مكانة الأم المسلمة، وما دامت تنال من التكريم وعظم الأجر ما أشرنا إلى طرف منه في هذا المقال، أليست والحالة هذه بحاجة ماسة إلى معرفة لوازم الأمومة ومن أهمها: إعطاء الأبناء والبنات جزءاً كبيراً من وقتها وجهدها الفكري والبدني.. ولو استلزم الأمر ترك أي عمل وظيفي خارج البيت للتفرغ لحاجات البيت وضروراته لأنها كما قال الشاعر العربي الكبير حافظ إبراهيم: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق والأم حينما تتفرغ لإدارة شؤون بيتها وتربية أولادها تفتح المجال في العمل خارج البيت لفئات كثيرة من النساء. ومن أهم تلك الفئات: البنات اللاتي لم يتزوجن بعد. المطلقات ممن ليس لديهن أولاد. النساء اللاتي لم يرزقن أولاداً لعقم أو غيره. والمرأة المسلمة التي ترجو ما عند الله وتطلب جنّته تعلم يقيناً أن البر بها إذا كانت أماً بابٌ من أبواب الجنة فلماذا تحرم أبناءها وبناتها من ذلك ببعدها عنهم وهم إن صلحوا واستقاموا نفعوها في الدنيا وأغنوها عن العمل خارج البيت وكانوا حجاباً لها من النار بإذن الله تعالى، فأيّ حاجة لعملها خارج البيت بعد ذلك؟!!