سألني أخ كريم من قراء الجزيرة الغراء عن براقش المذكورة في المثل المشهور: (على نفسها جنت براقش) من هي براقش هذه؟ وما الذي دعاها لأن تجني على نفسها؟ كما سألني نفس الأخ عن البيت المشهور: متى يبلغ البنيان يوماً تمامهُ إذا كنتَ تبنيهِ وغيرك يهدمُ مَنْ قائله؟ وأجيبه: براقش هذه كلبة نبحت على جيش مروا بالحي الذي هي فيه، ولم يشعروا بوجود الحي، فلما سمعوا نباحها علموا أن أهلها هناك فأغاروا عليهم واستباحوهم فقيل: (على أهلها جنت براقش). هكذا وجدت في المراجع ولم أجد (على نفسها) إلا أن تكون ماتت مع من مات من قومها فقيل: (على نفسها جنت براقش). أما بالنسبة للبيت: متى يبلغ البنيان يوماً تمامهُ إذا كنت تبنيهِ وغيرُك يهدِم؟ فقد وجدته منسوباً لثلاثة: لعمرو بن شأس الأسدي - ولكن بدل (وغيرك) كتب (وآخر) والثاني لبشار بن برد الشاعر المشهور الذي قتله الخليفة العباسي المهدي بن المنصور على الزندقة وقذف المحصنات الغافلات حيث كان في شعره يدعو إلى الإلحاح في طلب الفاحشة حتى قال: عُسرُ النساء إلى مياسرةٍ والضيق يعقب بعدها الفرجا وكان بشار قال أحسن الكلام في المشورة شعراً ونثراً فقد قال: إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن برأي نصيحٍ أو نصيحة حازمِ ولا تجعل الشورى عليك غضاضةً فريش الخوافي قوة للقوادمِ (والخوافي الريش القصير داخل جناح الطائر والقوادم الريش الطويل القوي في مقدمة الجناح) ويقول: فما خيرُ كفٍّ قيد الغلُّ أختها ولا خير سيف لم يؤيد بقائمِ (ويلاحظ تأنيث الكف). ولما سئل عن فائدة المشورة في النصح قال ما معناه: إنك إذا استشرت غيرك وأدت المشورة إلى المقصود فبها ونعمت، وإن كانت الأخرى فإنك تشرك غيرك معك في الفشل فيخف عنك اللوم وتسقط عنك المسؤولية. فقالوا له: لأنت في نثرك أشعر منك في شعرك. وقد نسب البيت المذكور لبشار بنفس الصيغة وهي: متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يَهدِمُ؟ وأما الثالث الذي نسب إليه البيت فهو الشاعر العباسي صالح بن عبدالقدوس الذي قتله المهدي على الزندقة أيضاً وكان قال أبياتاً في الحكمة (ليس البيت الذي نحن بصدده منها).. قال: ما يبلغ الأعداءُ من جاهلٍ ما يبلغ الجاهلُ من نفسهِ والشيخ لا يتركُ أخلاقهُ حتى يوارى في ثرى رمسِهِ إذا ارعوى عاد إلى جهلهِ كذي الضنى عاد إلى نكسِهِ والبيت الأول معناه أن الأعداء لا يستطيعون أن يضروا الجاهل بقدر ما يضر الجاهل نفسه (وقديماً قيل: الجاهل عدو نفسه). والبيت الثاني قالوا إنه أشأم بيت، فعندما أراد المهدي تنفيذ القتل بصالح بن عبدالقدوس قال: أتوب يا أمير المؤمنين.. فقال له المهدي كيف تتوب وأنت القائل: والشيخ لا يترك أخلاقهُ حتى يوارى في ثرى رمسهِ أي أن الشيخ (كبير السن) لا يترك عاداته حتى يموت ويدفن في قبره؛ وأمر بقتله، ويقول العامة: (العادة اللي في البدن ما بتروح إلا بالقطن والكفن). والبيت الثالث معناه: إذا تراجع كبير السن عن جهله ينتكس مثل المريض يُعافَى قليلاً ثم يعاوده المرض. وبمناسبة الزندقة (وكانت تُطلق على كل الأفكار التي تناقض العقيدة الإسلامية، فقد أوصى المهدي ابنه الهادي (الخليفة بعده) قائلاً: إني رأيت جدك العباس (العباس بن عبدالمطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم) قلدني سيفين وقال عليك بالزنادقة. (قلدني سيفين: علقهما في عنقي مثل القلادة). وعودة إلى البيت المسؤول عنه فقد ورد ضمن أبيات لا بأس في إيرادها في هذا المقام لأنها في نفس المقام قال: 1- رأيت صغير الأمر تَنمي شؤونُهُ فيكبرُ حتى لا يُحدَّ ويعظُمُ (يعظمُ معطوف على (يكبرُ) - المرفوع - وليس على (يحدَّ) - المنصوب - ومعناه مثل قوله: كل المصائب مبداها إلى النظرِ ومعظم النار من مستصغر الشررِ وقالوا: (أول الشر شرارة) 2- وإن عناءً أن تفهِّم جاهلاً فيحسبُ - جهلاً - أنهُ منكَ أفهمُ وقالوا: أصعب الصعب تفهيم من لا يفهم، وروي عن الشافعي رضي الله عنه قوله: (ما جادلني عالم إلا غلبته وما جادلني جاهل إلا غلبني). وهو مثل قول الشاعر: ومن الحماقة زجر من لا يرعوي عن جهله وخطابُ من لا يفهمُ 3- ونأتي إلى البيت - بيت القصيد -: متى يبلغُ البنيانُ يوماً تمامهُ إذا كنتَ تبنيه وغيرُك يَهدِمُ؟ وكان السَّمَوْءَلُ بن عاديّا - أوفى أوفياء العرب في الجاهلية وديانته اليهودية (ولعل صُمْولْ عند النصارى واليهود تحريف سموءل أو العكس). قال: وأوصى عاديا يوماً بألا تخرِّبْ يا سموءلُ ما بنيتُ بنى لي عاديا حصناً حصيناً وماء كلما شئتُ استقيتُ وفي مسائل الحساب يقولون: حنفية على حوض تملؤه ب(8) ساعات وبالوعة في أسفل الحوض تفرغه ب(12) ساعة فإذا فتحتا معاً ففي كم ساعة يمتلئ الحوض؟. وكنا نقول: الحنفية تملأ 1 / 8 الحوض في ساعة والبالوعة تفرغ 1 / 12 من الحوض في ساعة فيبقى في الحوض في الساعة 1 / 8 - 1 / 12 = 3 / 24 - 2 / 24 = 1 / 24 منه وعلى ذلك فيحتاج الحوض إلى 24 ساعة لملئه. أما إذا كانت البالوعة تفرغه بأقل من وقت ملء الحنفية فإنه لن يمتلئ أبداً. وذكرت ذلك حيث الحنفية تبني والبالوعة تهدم 4- متى يَفضُلُ المثري إذا ظن أنَّهُ إذا جاء بالشيء القليل سيَعدمُ؟ فإذا ظن الغني أنه إذا جاد بالقليل من المال فسيفتقر فإنه لن يكون له فضلٌ أبداً. 5- متى ينتهي عن سيئٍ مَنْ أتى به إذا لم يكن منه عليه تندُّمُ فالتوبة عن السيئات تقتضي الإقلاع عن الذنب فوراً والندم على ما فات والعزم على ألا يعود وردّ المظالم - ما أمكن - فإن لم يندم على سيئاته بل أخذته العزة بالإثم فإنه لن يقلع عنها - وهذا ما حصل مع الشاعر (صالح بن عبدالقدوس) حتى قُتل بسبب سيئاته وعدم توبته منها. والأبيات الثلاثة السابقة تبدأ باسم الاستفهام (متى) الذي يستفهم فيه عن الزمان والسائل لا ينتظر هنا جواباً وإنما جاء بالاستفهام لينفي تمام البنيان وفضل الغني وتوبة المسيء. وكلمة عن الاستفهام: فالاستفهام كما هو لفظاً طلب الفهم والعلم بشيء غير معلوم لدى السائل (هذا في الأصل) وله أدوات، منها: (الهمزة) ويُطلب بها التعيين مثل: أَزيد حضرَ أم عمرو؟. أو يُطلب بها فهم مضمون الجملة: أَحضر زيد؟. وفي المثال الأول في الجواب نُعيِّن: زيد؛ أما في الثاني فنقول: نعم حضر زيد (في الإثبات)، ولا، لم يحضر في أي أنه في حالة السؤال عن مضمون الجملة يكون الجواب بنعم في الإثبات، وب(لا) في النفي؛ أما الاستفهام المنفي فيُجاب عنه بنعم في النفي: أَلم يحضر زيد: الجواب نعم، لم يحضر (في النفي) وبلى حضر (في الإثبات). ومنها (هل) فيستفهم بها عن مضمون الجملة: هل تحب ماما؟ و(الهمزة) و(هل) حرفان وبقية أدوات الاستفهام كلها أسماء ومنها: (متى) للزمان و(كيف) للحال و(أين) للمكان و(أنى) للمكان والزمان و(أيان): للتهويل و(كيف) لجميع الأغراض. وقد يخرج الاستفهام إلى معانٍ أخرى مثل النفي في ثلاثة الأبيات السابقة، والتقرير مثل: ألستِ أكرمَ مَنْ يسعى على قدمٍ يا أحسنَ الناسِ كلِّ الناس إنسانا؟ والتحقير: من أية الطرق يأتي مثلك الكرمُ أين المحاجمُ يا كافور والجَلَمُ؟ (أدوات الحجامة) والاسترحام: ماذا تقول لأفراخ بذي مرخٍ زُغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ ألقيتَ كاسبَهم في قعر مظلمةٍ فاغفر عليك سلامُ الله يا عمرُ والأمر: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} أي انتهوا فقال الصحابة: انتهينا يا ربنا وكسروا أواني الخمر وهراقوها. والاستبطاء: قال تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}. والتهويل: قال تعالى: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}. والدعودة إلى التجديد: هل غادر الشعراء من متردِم أم هل عرفت الدار بعد توهمِ؟ والتقريع واللوم: إلامَ الخلف بينكمو إلاما وهذي الضجة الكبرى علاما؟ والتعجب: تنبهوا واستفيقوا أيها العربُ فقد طما السيل حتى غاصت الركبُ الله أكبرُ (ما هذا المنام)؟ فقد شكاكم المهد واشتاقتكم التُّربُ فأسمعوني صليل البيض بارقةً في النقعِ إني إلى رنّاتها طَرِبُ والتمني: هل تُبلغنِّيَ أدنى دارهم قُلُصٌ يزجى أوائلها التبغيل والرَّتَكُ والقلص: النوق، والتبغيلُ والرتكُ: نوعان من سير الإبل. وهذا الموضوع (خروج الاستفهام عن معناه الأصلي يُطلب في علم المعاني في البلاغة). وعودة إلى الأبيات: 6- وما الرزق إلا قسمة بين أهله فلا يعدم الأرزاق مُثرٍ ومُعدمُ بل لا يعدم الأرزاق ساعٍ وقاعد وعاقل وجاهل وإنسان وطير قال تعالى: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}، وقال سبحانه: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}. ولشاعر: ولو كانت الأرزاق تجرى على الحِجا هلكن إذن من جهلهنَّ البهائمُ وعندما قسُمت العقول كلُّ رضي بعقله بل قال إن عقله أحسن العقول وعندما قسمت الأرزاق ما أقل مَنْ رضي برزقه! 7- ولن يستطيع الدهرَ تغييرَ خَلقِهِ لئيمٌ ولن يسطيعهُ متكرِّمُ وهذا مثل قول (نفس الشاعر، وقد مر البيت معنا سابقاً): والشيخ لا يترك أخلاقهُ حتى يوارى في ثرى رمسهِ وقالوا (الطبع غلب التطبع) فلا الكريم يغير طبعه ولا اللئيم. 8- كما إن ماء المزن ما ذيقَ سائغٌ زلالٌ وماءُ البحرِ يلفظه الفمُ هذا صحيح ولكن: قد تنكر العين ضوء الشمس من رمدٍ وينكر الفمُ طعم الماء من سقمِ