تزوجته.. فأحببته بكل مشاعري وإحساسي.. وجدت فيه عزائي الوحيد بعد تيتمي من والدتي.. وجدت فيه العطف الذي فقدته.. وجدت قلباً يفرح لفرحي.. قلباً يحزن لحزني.. بذل من أجل حبي الكثير.. وبذلت الكثير.. قدمت له قلبي بكراً عفيفاً.. نقياً.. من الشوائب.. وقدم لي قلبه مشحوناً بالحب الطاهر.. بالإخلاص.. بالوفاء.. حتى الأبد. ومرت الأيام.. أيام كنا نعتقد أنها دائمة.. كنا نقضي الساعات الطوال بعيداً عن الأهل بعيداً عن البشرية جمعاء.. بجوار الجدول الصغير.. وتحت شجرة السنديانية.. كأننا عصفوران طال مكوثهما في القفص وحانت لهما فرصة الهرب إلى دنيا السعادة والحب. انصرم على هذا عام كامل ملؤه الحب الطاهر.. ملؤه السعادة المتبادلة وبدأت الأقدار تلعب دورها.. أصيب أملي في الحياة بمرض لا نعلم كنهه.. هل هو مرض الحب.. أم مرض الفراق.. وقبل سفره للعلاج ودعني بكلمات تشوبها حشرجة الدموع.. قال إنه سيعود معافى إن شاء الله وسنعيد الماضي.. قدم لي قلباً يضم في أحد جناحيه صورته والأخرى فارغة.. وودعته وكنت كالقائل. ودعته وبودي لو يودعني صفو الحياة وأني لا أودعه.. ثم سافر.. وعشت على أمل العودة.. أصبحت شاردة الذهن أفكر فيه.. لقد كان كل شيء بالنسبة لي.. كان كالهواء لا غنى عنه.. ونظمت عند ورود أول رسالة منه طمأنني عن سير علاجه.. كنت أجهل أن مرضه من الخطوة بمكان.. ورتني الرسالة والرسالتان لفترة.. وفجأة انقطعت رسائله. رجف فؤادي وتسارعت دقات قلبي وجفاني الكرى.. وجفيت الطعام لاحظ والدي حالتي وحاول أكثر من مرة الاستفسار عن السبب فكنت أخفي ما في فؤادي وأدعي الأمراض الكاذبة وهو يسعى لعلاجي ولكنه.. لا يحدثني بشيء عن المسافر البعيد.!! وفجأة عاد والده من الخارج.. عاد وحيدا!! لماذا أين تركه!! هل سيقضي إجازة الاستجمام والراحة وحيداً هناك!! أم ماذا!! أسئلة كثيرة تتضارب في رأسي الصغير.. ذهبت في اليوم التالي إلى شقيقتي لأستفسر عما في رأسي من أسئلة.. وجدتها واجمة أجابتني باقتضاب.. (سوف يعود بعد شهر) أردت أن أطمئن قلبي بجوابها ولكن شعوراً خفياً يؤلمني كثيراً.. حضر زوج أختي.. قال ليته لم يقل قال ما زعزع كياني وأفقدني شعوري ووعيي.. مسكين ابن فلان أفقده سرطان الدم شبابه.. صرخت أختي في وجهه بغضب.. قل سيعود.. قل.. وهذا آخر ما سمعت لقد خارت أعصابي ووقعت فاقدة الوعي لم أعلم كم يوما مضت وأنا في السرير الأبيض.. كنت إذا عدت إلي رشدي تذكرت من كان أملا لي.. فأعود إلى غيبوبتي.. وبعد شهر عدت إلى منزل أختي.. لتبقى بجواري وتهون علي مصابي.. أحضر والده رسالة كان قد كتبها قبل الوفاة بليلة واحدة وسلمني إياها بعد وعد مني بعدم البكاء وإحداث ما لا تحمد عقباه.. وفضيتها كانت تحوي أحلاما قرأت: * (.. إليك يا ملاكي.. أهدي سلامي.. سلام مفارق قضى أحلى أيام عمره معك.. أملي.. لقد خيب رجائي.. إنني أجد نفسي مغادراً هذه الدنيا.. إلى دنيا الخلود.. سأفقد وميض عينيك.. سأفقد كل شيء تهون الدنيا ومن عليها إلا أنت.. يا من زرعت في قلبي الأمل.. ولكنه القدر.. أنت في عنفوان الصبا لا تعيشي في ظلام الذكريات أسدلي على حبي ستارا من النسيان.. وأطلقي لقلبك العنان.. إن طلبي من الله.. أن تقع درتي في يد من يقدرها.. وإلا فسأصب عليه جام غضبي من ظلام قبري.. ختاماً.. وختاماً لا أمل بعده.. اطلبي من الله في صلاتك أن يسامحني إن أخطأت في حياتي.. فإني كنت أصون حبك وأحافظ عليك كمقلتي.. وداعاً من قلب يفيض حبا.. وحزناً.. خنقه القدر وهو في المهد). كانت هذه الرسالة آخر ما خطت يده ودار بخلده.. يطلب مني النسيان وهذا رابع المستحيلات.. فسيبقى حبه في قلبي مهما طال الزمان.. فلن أنساه.. إنه حبيبي.. إنه زوجي(!!). صلاح سعيد الزهراني