الحمد لله الذي جعل الحج ركناً من أركان دينه وشرعه، لإقامة ذكره وتوحيده قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإبراهيم مَكَانَ الْبَيْتِ ألا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}.. والصلاة والسلام على إمام المرسلين وسيد الموحدين، الذي قال في حجته في صعيد عرفات: (خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) أما بعد.. فإن من خصائص الحج أنه يجمع بين أنواع من العبادات، وأنواع من المشاق، فهو عبادة عظيمة تجمع بين العبادة البدنية والمالية، ففيه السفر والتنقل وفيه البذل والإنفاق، كالنفقة على رحلة السفر وشراء الهدي.. وهو عباده متميزة عن غيرها في مكانها، وفي جمعها وصفتها، وفي أركانها وواجباتها، وفيها شعائر ومقدسات لها الإجلال والتعظيم، لأمر الله بها قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فإنها مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن موسى في قوله: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ..} قال: الوقوف بعرفة من شعائر الله، والبدن من شعائر الله، ورمي الجمار من شعائر الله والحلق من شعائر الله.. (الدر المنثور للسيوطي: ج6 ص47).. من منافع الحج قال ابن جرير الطبري: (إن قول الله تعالى ذكره: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ..} معني به كل ما كان جعله الله علماً لمناسك حج خلقه، إذ لم يخصص من ذلك جل ثناؤه شيئاً في خبر ولا عقل، وإذا كان ذلك كذلك فمعلوم أن معنى قوله لكم فيها منافع إلى أجل مسمى في هذه الشعائر بدناً وهدياً، فمنافعها لكم من حيث تملكون إلى أن أوجبتموها هدياً وبدناً، وما كان منها أماكن ينسك لله عندها فمنافعها التجارة لله عندها، والعمل بما أمر به إلى الشخوص عنها، وما كان منها أوقاتاً بأن يطاع الله فيها بعمل أعمال الحج (تفسير الطبري: ج 17 ص 159).. إخلاص الدين لله تعالى إن النظر في آيات الحج الواردة في كتاب الله عزّ وجلّ وما عهد الله جلّ وعلا لإبراهيم عليه الصلاة والسلام بإقامة البيت وتطهيره، وأداء شعائر هذا المنسك العظيم بتجلٍ له التوكيد على إخلاص الدين لله تعالى، ومجانبة الشرك وأهله.. قال أبو العالية وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وقتادة في تفسير قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إلى إبراهيم وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (البقرة: 125)، أي بلا إله إلا الله من الشرك وعن مجاهد وسعيد بن جبير {..أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ..} إن ذلك من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس.. وعن قتادة في قوله: {..أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ..} قال من عبادة الأوثان والشرك وقول الزور.. وقول الزور عام في كل قول باطل كالشرك والبدع والمحدثات في الدين.. تطهير مكان البيت وعن السدي: {وَعَهِدْنَا إلى إبراهيم وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ..} أمرا بأن يطهرا مكان البيت قبل بنيانه، والبيت بعد بنيانه مما كان أهل الشرك بالله يجعلونه فيه على عهد نوح ومن قبله من الأوثان ويكون ذلك سنّة لمن بعدهما، إذ كان الله تعالى ذكره قد جعل إبراهيم إماماً يقتدى به من بعده. (تفسير الطبري: ج 1 ص 538).. لبيك اللهم لبيك فالحاج إلى بيت الله الحرام يبدأ نسكه بالتوحيد والإخلاص كما وصف جابر بن عبد الله إهلال النبي صلى الله عليه وسلم وتلبيته بقوله -رضي الله عنه - (أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد)، حيث كانت تلبيته بالتوحيد لله تعالى، والبراءة من الشرك (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).. واستمر في تلبيته صلى الله عليه وسلم بهذا التوحيد يلهج به لسانه، رافعاً صوته به، مكرراً له، ومديماً عليه حتى انتهى من حجه صلى الله عليه وسلم.. معاني التوحيد ونرى معاني هذا التوحيد تتكرر في كل مشعر من مشاعر الحج في طوافه وسعيه، ووقوفه في عرفات، وفي مبيته بالمشعر الحرام، وفي منى وعند رمي الجمرات يكبر الله ويذكره، ويوحده، ويدعوه.. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى من الطواف صلى ركعتين قرأ فيهما بسورتي الإخلاص {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ..} وسورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ..} للدلالة على التوحيد والإخلاص ومخالفة المشركين والبراءة منهم.. دعاء يوم عرفة وفي عرفات يوم يباهي الله عزّ وجلّ بعباده ملائكته، ويوم يجأر الناس بالدعاء، ويعج الحجيج بالتلبية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) (سنن الترمذي: الدعوات 3509). وفي حديث جابر.. فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ} (البقرة: 158)، ابدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصره عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك.. (صحيح مسلم: الحج 2137).. ويؤكد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على هذا المعنى عندما قبّل الحجر الأسود وقال: (أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك) (صحيح البخاري: الحج 1494).. هدي النبي صلى الله عليه وسلم إن المسلم مع هذه الآثار والمشاهد في هذه المشاعر العظيمة يتبع معها هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فما قبّله أو أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم كالحجر الأسود فإنه يقبّله أو يشير إليه، وما استلمه كالركن اليماني فإنه يستلمه وما تركه النبي صلى الله عليه وسلم فإن المتعين تركه.. وهكذا في بقية المشاعر والمشاهد فإن الابتداع في تتبع الآثار والمشاهد يورث مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم ومعصيته، ويكلف المرء تعباً ومشقة، وكذلك مالاً ونفقة لم يشرع في هذا الفعل أو ذلك.. تعظيم البيت وخدمة وفود الرحمن ومن تعظيم هذا البيت وتقديسه عدم الإلحاد فيه بظلم، أو معصية الخالق بالشرك أو الابتداع بالدين، أو دعاء غير الله، أو رفع شعارات جاهلية، أو الفساد فيه قال تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) أو ترويع الآمنين، أو إيذاء الخلق قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً..} (البقرة:125).. عن أبي العالية في قوله {.. وَأَمْناً..} قال: أمناً من العدوان.. يحمل فيه السلاح، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون.. (الدر المنثور للسيوطي: ج1 ص 289).. ورعاية المسجد الحرام وعمارته بتهيئته وتوسعته، واستقبال الحجاج، وتيسير حجهم، وإرشادهم فيما يصلح أحوالهم في هذا النسك العظيم يعدّ من تعظيم البيت، وخدمة وفود الرحمن.. جهود الدولة المباركة والدولة وفقها الله بما بذلته من جهود عظيمة متتابعة خيّرة، مباركة يشهد بها كل من وطئ هذه الأرض المقدسة، وتتمتع بهذه الخدمات العظيمة التي سهلت الصعب، ويسرت المشاق وهيأت كل الحوائج، فإنها بهذا تنال شرف خدمة الحرمين، وعمارة المسجدين.. فنسأل الله أن يبارك في جهودهم، ويزيدهم من فضله، ويحفظ سبحانه لهذه البلاد مقدساتها وأمنها وعزها، ويديم عليها نعمه ورحمته.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.. (*) وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد