السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: طالعت على صفحات الجزيرة في العدد 10101 بتاريخ 21/صفر/1421ه التحقيق الذي اجراه كل من الاخ عبدالله الملحم والاخت هدى البراهيم والذي كان بعنوان ما هي حدود رؤية الخاطب لخطيبته ؟. وبعد,. لا ننكر ان كل من حاول ان يتحدث في هذا الامر المهم كان حسن النية وبلغ لديه التفاعل بالمشكلة حداً جعله يفضي برأيه الى وسائل الاعلام المنتشرة حيث اصبحت قضية تأخر الزواج بين الجنسين من المشكلات التي يعاني منها مجتمعنا وهناك شعور عام بأن المشكلة موجودة في كل بيت وان حجمها في تزايد وقد تشكل ظاهرة، فهناك نسبة كبيرة من الفتيات بلغن مرحلة عمرية متقدمة بدون زواج وكذلك في المقابل هناك نسبة كبيرة من الرجال تقدموا في المرحلة العمرية بدون زواج ايضا. ان تلك الظاهرة المؤرقة تأخر الزواج بين الجنسين لزاما علينا ان نعطيها حقها لما لها من خطورة حقيقية تمس كل اسرة وتمس بهذا مجتمعنا كله. سؤال يطرح نفسه على الجميع والذي ارى انه لابد منه ولا بد من مواجهة حاسمة صادقة وهو: الى اين المسير والى اين نتجه؟ الكل يتحدث عن صعوبة الزواج وحجم المشكلة ويقف الامر عند هذا الحد، فأين المسير؟ وكيف تكون النهاية؟ ان سنوات الماضي لم تشهد وجود تلك الظاهرة المسماة بالعنوسة لدى الاناث والعزوبية لدى الذكور بأي شكل من اشكالها ولم يحدث الا في القليل النادر ان توجد امرأة او رجل بلا زواج وكانوا يطلقون على تلك المرأة إن وجدت حورية ويرددون بعضا من حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) (مسكينة مسكينة لا زوج لها، ومسكين مسكين لا زوجة له)، وكانوا يعتبرون من بقيت بلا زواج أنها مشكلتهم جميعا, كذلك فانه لم يُرد طالب للزواج لأي سبب مهما كان، فاذا تقدم شاب او رجل لخطبة فتاة او امرأة كانت الموازين هي الخلق والشرف وتحمل المسئولية ولم يرد احد لغناه أو فقره ولم يرد أحد لأنه صاحب عاهة او لانه متزوج او لسنه او لأية صفة شخصية اخرى. فسهولة الماضي وانعدام المشكلة فيه انما جاءا بسبب التزام الناس بدينهم وتعاونهم على البر والتقوى، وقد انعكس ذلك الالتزام على سائر شئونهم فكان امر زواج الفتاة حين تصل الى سن الزواج أمراً لازماً. ان قضية العنوسة مرتبطة بقضية اكبر هي النظام الاجتماعي الذي يسود المجتمع السعودي بصفة خاصة والخليجي بصفة عامة من حيث العلاقة بين الجنسين ونظرة الرجل للمرأة ووضع المرأة الاجتماعي فكيف لا تكون مشكلة للعنوسة او العزوبية والعادات والتقاليد السائدة تمنع الالتقاء وتبالغ في وضع الحواجز بين الجنسين واقصد بذلك عدم وجود فرص للالتقاء او الرؤية الشرعية التي تمهد للاختيار الزواجي، فكيف يكون الاختيار سليما في مجتمع يضيق او يمنع تلك الفرصة؟ واذا رجعنا الى تجربة النظام الاجتماعي في المجتمع الاسلامي الاول في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الراشدين لوجدنا ان المرأة كانت لها مشاركة واسعة وكان الجنسان يلتقيان ويتعاونان في مختلف اوجه النشاط المجتمعي من دعوة وبيعة وهجرة وجهاد وتعليم وعبادة وخدمة مجتمعية، وكان اللقاء حاصلا بدون حائل او حاجز بين الجنسين، فالمسجد واحد يحضره الجنسان ولكن وفق نظام داخلي يحتفظ للمرأة بخصوصيتها، الصفوف الامامية للرجال والخلفية للنساء، وفي ميادين العلم يحضران بنفس النظام ولا يوجد ما يحول دون لقاء الجنسين ورؤيتهما لبعض في اطار من الاحتشام الشرعي والآداب الاسلامية، وكان الجنسان يلتقيان دون حائل ويرى الرجل المرأة وترى المرأة الرجل وكانت الوجوه مكشوفة ولم تكن هناك ظاهرة النقاب الا لدى القلة ولذلك جاء الامر القرآني بغض البصر للجنسين، وفي ظل هذا النظام الاجتماعي الراقي كانت الفرصة مهيأة للاختيار السليم للزواج، فلم يكن هناك نظام الفصل ولم يكن هناك ما يعرف بالاختلاط فكلمة الاختلاط دخيلة على المعجم الاسلامي حيث كان هناك نظام للقاء والمشاركة والتعاون لا يعزل المرأة عن الرجل، وفي نفس الوقت لا يضيّع خصوصية المرأة المسلمة، وقد استطاع العالم الجليل عبدالحليم ابو شقة رحمه الله في موسوعته الرائعة عن المرأة ان يستخرج من صحيحي البخاري ومسلم رحمهما الله اكثر من (300) واقعة تثبت بوضوح مشاركة اجتماعية واسعة للمرأة بجانب الرجل، يقول فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي مؤكدا: (كلمة الاختلاط في مجال العلاقة بين الرجل والمرأة، دخيلة على المعجم الاسلامي، لم يعرف الا في هذا العصر، والأولى (لقاء) أو (مقابلة) أو (مشاركة)، والناظر في الهدي النبوي يرى ان المرأة لم تكن مسجونة او معزولة كما حدث في عصور تخلف المسلمين، فقد كانت تشهد الجماعة والجمعة من مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم ) ولم يكن هناك حائل بين الرجال والنساء، وكانوا يدخلون من باب واحد، ويحضرن النساء صلاة العيد، ويشاركن في هذا المهرجان الاسلامي، ويحضرن دروس العلم مع الرجال عند النبي (صلى الله عليه وسلم) وتجاوز هذا النشاط الى المشاركة في المجهود الحربي، وفي الحياة الاجتماعية، شاركت المرأة داعية للخير، والمتأمل في القرآن وحديثه عن المرأة عبر العصور، وفي حياة الرسل، لا يشعر بهذا الستار الذي وضعه الناس بين الرجل والمرأة، فموسى عليه السلام يحادث الفتاتين بلا تأثم ولا حرج، وزكريا ومريم، وملكة سبأ مع قومها ، فاللقاء بين الرجال والنساء في ذاته جائز اذا كان القصد منه المشاركة في هدف نبيل من علم نافع او عمل صالح او مشروع خير او جهاد لازم ولكن ضمن حدود وقيود ضابطة)* *(القرضاوي، فتاوى معاصرة) ص 2 ، ص 277). (الفنجري ، الاختلاط في الدين، ص 45). وفي هذا الوقت وما يتوفر فيه من رفاهية كان من الطبيعي انه عندما تحدث النعمة ويزداد الخير أن نتجه الى الله سبحانه وتعالى اكثر مما كان وان يزداد شكرنا لهذه النعم لا ان يحدث العكس كما حدث في الاسراف وتعقيد الامور والمغالاة وتسلط بعض الامهات اللائي يقدمن الرفض دائما لمن يطرق بابهن طلباً للزواج من بناتهن ويكون الرفض مستندا إلى اسباب واعذار ما أنزل الله بها من سلطان كعدم مناسبة الوضع الاجتماعي للمتقدم من حيث أسرته او وظيفته او ما لديه من مال ومظاهر وما الى ذلك ويصل الامر الى ذلك واكثر حتى وان كان المتقدم للزواج من ذوي الارحام الذين أوصى الله بهم ورسوله في مواضع كثيرة في الكتاب والسنة, ومن الطبيعي بعد التسليم بهذه المقولة ان يوجه اللوم والاتهام الى الآباء وأولياء الامور باعتبار انهم المسؤولون، ولكن ما هذا عن تلك ببعيد حيث انهم يتاجرون في بناتهم لجشعهم الزائد بعد ان رأى أحدهم في ابنته الجميلة كنزا ثمينا لا يمكن التفريط فيه الا بالثمن الذي يريده حتى يصبح احد الاغنياء بعدها, والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل يتم الاختيار للزواج في المجتمع الخليجي وفق معايير الاسلام: ان الاستطلاعات التي تجريها وسائل الاعلام المختلفة وبخاصة الصحف والمجلات، تبين ان نسبة كبيرة من الشباب تم زواجهم عن طريق الاهل او الخاطبة، وكثير منهم لم ير زوجته قبل الزواج او الخطبة او حتى صورتها! وقد يكون اختيار الاهل هو الاسلوب المنسجم مع وضع اجتماعي لا يجد الشباب فيه فرصته في الاختيار ولكن هذا الاسلوب لا يضمن استمرار الحياة الزوجية، لأن الشاب يجد نفسه مضطراً للزواج بناءً على اختيار الاهل ورغبتهم في فتاة معينة وإلحاحهم عليه وقد لا تكون عنده او عندها قناعة كافية والزواج الذي يتم عن عدم قناعة مصيره غالبا الفشل, ومن هنا تنشأ مشكلة كثرة الطلاق ولكن نسبة اخرى من الشباب وبخاصة الذي تعلم في الخارج يرفض هذا الاسلوب لأنه يريد ان يختار بنفسه ولكن المجتمع لا يوفر له فرص الاختيار، لأن حرية الاختيار تقتضي وجود تعدد يتم الاختيار من بينه، ومثل هذا الوضع غير موجود، ومن ذلك أيضا ان الحضارة الحديثة قد اتاحت من متع الحياة ما قد يعوض على العزاب بعض ما يحققه الزواج ويحققه الترابط العائلي، بل لقد اتاحت هذه الحضارة من المتاع والحرية والانطلاق ما قد يبغض كثيرا من الناس في قيود الزواج، ومن ذلك أيضا ان ارتقاء التفكير وانتشار الثقافة في الرجال والنساء في مختلف الطبقات قد جعل طالبي الزواج وطالباته يطمحون الى اوضاع مثالية يصعب تحققها في الواقع او يندر تحققها، فيؤثر كثير منهم العزوبة على زواج لا يحقق له الوضع المثالي الذي يطمح إليه او يضمه الى زوج لا تتوافر فيه جميع الشروط التي يرى وجوب توافرها فيه والى العوامل السابقة كلها او معظمها يحاول الشاب تأجيل زواجه الى مرحلة عمرية متقدمة او ان يتزوج من الخارج، ومن هنا تنشأ مشكلة العنوسة. وقد تتوافر فرص اللقاء والاختيار في بعض المجتمعات الخليجية ولكن الشباب من الجنسين بسبب عدم النضج والخبرة ينخدعون بالمظاهر الخارجية فيسيئون الاختيار أيضا وقد يكون الاهل غير راضين ولكن امام الاصرار والالحاح يوافقون، ومصير هذا الزواج ايضا الفشل. ولعل العلة الرئيسية التي يستند إليها كثير من الشباب في تبريرهم لعدم زواجهم او تأخرهم في ذلك هي غلاء المهور وتكاد هذه الحجة تحظى بالشعبية الكبرى لدى قطاع الشباب وبخاصة الذكور، ففي برامج اعلامية عديدة يلتقي مقدم البرنامج بجمع من الشباب ويطرح عليهم السؤال التقليدي: لماذا ظلوا بدون زواج حتى تلك اللحظة؟ فتكون الاجابة السهلة والتي تتكرر على الألسنة هي غلاء المهور علما بأن بعض هؤلاء قد يكون في مستوى مادي او اجتماعي جيد، فهي حجة غير صادقة في معظم الاحيان، ولكن درج الشباب ان يقول غير ما يبطن في المواضع ذات الحساسية امام الجهاز الاعلامي, وقد تكون ظاهرة السلوك المزدوج عامة كلنا نمارسها في المواضع ذات الحساسية، وبغير ان نرى في ذلك ما يعيب, وهذا الشاب الذي اخفى الحقيقة تجده أمام اصدقائه يصارحهم بالعلة الحقيقية ولكنه أمام الاعلام لا يجد غير شماعة غلاء المهور وبسبب ترديد الشباب لهذه الحجة، نجد الخطباء والوعاظ أيضا يعتقدون ان مشكلة العنوسة هي غلاء المهور ولكثرة دوران مقولة غلاء المهور على الألسنة وعبر وسائل الاعلام، صدّق الجميع ذلك واعتقد أنها مشكلة حقيقية، وهي مشكلة زائفة خلفها الاعلام. كيف يتم الاختيار السليم للزواج في الاسلام؟ قد ارشدنا الاسلام الى جملة من معايير حسن الاختيار للزواج، اذا استرشدنا بها، ضمنا حياة أسرية طيبة، فالاختيار السليم اساس الزواج السليم، وهذه المعايير منها ما يتعلق بالجانب المعنوي كالدين والاخلاق ، ووسيلة معرفته ميسورة، ومنها ما يتعلق بالجانب المادي كالتكوين الخلقي او الجسدي، ووسيلة معرفته الرؤية المباشرة واللقاء، وقد حث الاسلام على الرؤية للتعرف والاطمئنان النفسي والقلبي، فالعين رسول القلب، وهي الوسيلة الاساسية لمعرفة المظاهر الجمالية المرغِّبة في الزواج، يدل عليه امر الرسول (صلى الله عليه وسلم) لمن اراد الزواج بالرؤية، معللا ذلك بضمان دوام العشرة ودليل ذلك في الحديث المشهور عن المغيرة انه خطب امرأة فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) (انظر إليها فانه احرى أن يؤدم بينكما) وقد كانت فرص اللقاء والرؤية ميسورة في المجتمع الاسلامي الاول كما اوضحت سابقا بسبب المشاركة الواسعة للمرأة في الحياة العامة، وما كان يترتب عليها من فرص الاختيار السليم للزواج. لذلك ارى ان خير وسيلة لحسن الاختيار هو في ان نوفر للشباب فرص اللقاء المنضبطة بضوابط الشريعة وان يتم بناءً على اختيار الشباب وموافقة الاهل معا، مع مراعاة الاسس السليمة للاختيار. واخيرا ارجو ألا يُفهم من كلامي السابق ان الناس لا يتزوجون الا اذا اختاروا، فالناس يتزوجون قديما وحديثا باختيار او بدونه ولكن المقصود ان متغيرات العصر جعلت قطاعا كبيرا من الشباب المتعلم يواجه عقبة (الاختيار السليم للزواج) في مجتمعه المحلي، ولا يجد معيناً من المجتمع وليس المعنى المقصود هو الدعم المالي فيؤجل زواجه، انتظارا لفرص مواتية، وقد يطول الانتظار، فتنشأ مشكلة العنوسة وتتضخم، كذلك لا يفهم ان كل زواج لا يسبقه اختيار سليم فهو فاشل او ان كل زواج قائم على اختيار فهو ناجح، فالتلازم في القضايا الاجتماعية امر غير حتمي، ولكن المقصود ان مراعاة اسس الاختيار السليم تؤدي غالبا الى حياة زوجية مستمرة، ولهذا أرشدنا الاسلام الى إحسان الاختيار، لدوام العشرة، فلو لم يكن عنصر الاختيار أمرا مهما، لما امر به الاسلام,, من أجل هذا كله، على المجتمع الخليجي من خلال مؤسساته وتنظيماته وكذلك الاسر ان يهيىء الاوضاع الملائمة والفرص المناسبة للاختيار السليم للزواج، مسترشدا في ذلك بتعاليم الاسلام في هذا الشأن. نواف بن عبدالله المدهرش الرويلي