جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة. وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره. و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله.. آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد. شرع الزواج في الإسلام لتوجيه الفطرة الإنسانية التوجيه الأمثل، لإشباع الغريزة، وعمارة الأرض بالذرية الصالحة، وتقوية العلاقات الاجتماعية، فلا رهبانية ولا تبتل في الإسلام، لما في ذلك من مخالفة للفطرة، وتشديد على النفس، والإسلام دين اليسر والسماحة، أمر بتيسير الزواج دفعا للمضار والأخطار، التي قد تترتب على طلب إشباع الغريزة في المسالك المحرمة، وتحقيقا للعفاف وكرامة الإنسان رجلا كان أو امرأة، إلا أن كثيرا من المسلمين تشددوا في تكاليف الزواج، فأهدروا حقوق أبنائهم وبناتهم في حياة زوجية هانئة، وأفسحوا المجال للكثير من الانحرافات والأمراض الاجتماعية والأخلاقية. وفي الحلقتين السابقتين تعرفنا على أهم الأسباب المؤدية لعزوف الشباب عن الزواج، وملامح مسؤولية الآباء والمجتمع عموما في علاج هذه المشكلة، وفي هذه الحلقة الثالثة نواصل رصد الآراء والحلول المقترحة، أملا في تيسير الزواج، وحماية الفرد والمجتمع من مخاطر العزوبية والعنوسة. الجو الأسري بداية يقول الأستاذ الدكتور سليمان بن صالح القرعاوي أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك فيصل بالأحساء: تشكل الأسرة نواة المجتمع القائمة على الأبوين - الزوج والزوجة -، ومن هنا حرص الإسلام على اختيار البذرة الصالحة، لتكوين الأسرة، وفي الحديث الشريف: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)، لما في ذلك من تحقيق الجو الأسري القائم على المحبة والمودة، يقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}، والزواج الناجح لا يكون إلا عن توافق ورغبة من الطرفين في ضوء شرعنا وقيمنا الإسلامية، لا عن إغراء وتأثير، ولما كثرت الإغراءات في هذا العصر واستفحل أمرها فلم يكن بد من التضييق على الأهواء والنزوات، وإن تعذر البعض عن الزواج بحجة المغالاة في المهور، أو تكاليف الزواج الباهظة، أو عدم وجود الزوجة الكفء، وكل ذلك حجج واهية، وهروب من المسؤولية، ومن واجب الاستخلاف في الأرض، لذلك يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: (ليست العزوبية من أمر الإسلام في شيء) والنبي صلى الله عليه وسلم تزوج، وقد رفض الرسول صلى الله عليه وسلم إقرار من عزم على الانقطاع إلى العبادة وترك التزوج، وأعلن أن حياة الأسرة من سنته (فمن رغب عن سنتي فليس مني)، ويكفي أنه كان قدوة لأمته في ذلك، ولو كان الترفع عن حياة الأسرة رقيا وفضلا لكان هو أولى به، لكنه تزوج وأنجب وحمل أعباء الزوجة والولد، ومن هنا فلا مكان لمتنطع يزعم أن في حياة الأسرة مشغلة عن العبادة أو عائقا عن تقوى الله. أسباب العزوف ويضيف د. القرعاوي: ولكن قد يتساءل الإنسان مع نفسه لماذا العزوف عن الزواج بين أوساط الشباب والشابات اليوم؟ وهنا تأتي الإجابة حسب تقديري في عدة أسباب يمكن تلخيصها فيما يلي: ضيق ذات اليد، وشح الوظائف، ومغالاة الأولياء بمهور بناتهن، وربط الزواج بالتعيين وبعده، وتشدد الأولياء في اختيار الزوج المناسب، وتعلل الفتيات عن الزواج بإكمال الدراسة. وإن كان السببان الأخيران قد انحسرا مؤخرا، إلا أن ما سبقهما قد اتسع أمرها وانتشر، لذا لابد من تشجيع ترك المغالاة بالمهور عن طريق القنوات الفضائية نظريا وعمليا، مع التركيز على نبذ الأمور العاطفية من عادات وتقاليد ومفاهيم متوارثة، تتحكم في شخصية وقرارات الأبوين والقبيلة، ومن ثم تفتح ثغرة خلقية في المجتمع، أيضا ضرورة تكاتف الوسائل الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية بتشجيع تعدد الزوجات، حيث إن المجتمع يعاني كثيرا من الإقدام على هذا الحل، وبالتالي يمكن تضييق الهوة، وعدم اتساع الخرق على الراقع من كثرة العانسات في المجتمع. تأخر زواج الفتيات من جانبها تطرح د. رقية بنت محمد المحارب عضوة هيئة التدريس بكلية التربية للبنات بالرياض نتائج دراسة أكاديمية أجريت قبل عدة سنوات، تؤكد أن حوالي 14% من الأسر السعودية تعاني من مشكلة تأخر زواج فتياتهم، وتضيف: وإذا علمنا أنه يوجد في مدينة الرياض حوالي 400 ألف أسرة سعودية، فإن هذا معناه أن حوالي 60 ألفا من هذه الأسر لديها هذه المشكلة!! وأرجعت هذه الدراسة الأكاديمية أسباب هذه الظاهرة إلى ارتفاع سنوات التعليم عند الفتيات، والذي يؤدي إلى رغبة البنت وكذلك الأسرة إلى إكمال التعليم قبل الزواج، واتجاه الفتاة للعمل خارج المنزل، بل وربما خارج المدينة التي تعيش فيها، وهذا يسبب إعراضا عن الزواج منها وإن كانت هناك دراسات أخرى تشير إلى أن حظوظ المرأة العاملة في الزواج أكثر منها من غيرها، غير أنه تبين أن نسبة الطلاق تكون أكثر بين العاملات بسبب خلافات حول العمل، ومكانه، وتركه، أو دخل الزوجة وكيفية التصرف فيه، بالإضافة إلى أن عمل المرأة ساهم في تمرد الزوجة على زوجها حسب ما تشير دراسات أجريت قريبا، يضاف لذلك أن عمل المرأة الذي أدى عند كثير من الأسر إلى تأجيل زواج البنت رغبة في مساهمتها في اقتصاديات الأسرة وأدى كذلك إلى انصراف بعض الشباب من ذوي الوظائف الأقل دخلا عن الارتباط بالعاملة نتيجة لما يتطلبه هذا من توفير عمالة أجنبية ومصروفات أخرى. وتستطرد د. المحارب: وفي دراسة نشرت عام 1414ه، تبين أن نسبة 75% من الشباب الجامعي يرى أن على المرأة المحافظة على علاقتها الزوجية حتى ولو ضحت بعملها وهذا يدل على أن الاعتبار الأكبر للشباب هو أن يروا في الفتاة تقديم الزواج على العمل وليس العكس، في حين يرى 67% كما أشارت هذه الدراسة منهم أن المرأة لا تستطيع التوفيق بين مهامها الوظيفية والمنزلية. ومن أسباب العزوف عن الزواج أيضا الهجرة من الموطن الأصلي إلى المناطق الحضرية والإعراض عن مجاورة الأقارب، فكلما كان اختيار الأسرة لمسكنها مجاورا للأقارب أو المعارف زاد هذا من احتمالات الزواج، يضاف لذلك تعنت بعض الآباء والشروط القاسية التي يفرضونها من مهر وسكن مستقل، ومستوى معيشة في المتقدم للزواج، وذلك نتيجة بعض الضغوط الاجتماعية، وكذلك عدم محاولة اختيار الكفء للفتاة، والبحث عنه بحجة العيب الاجتماعي تؤدي كلها إلى معاناة بناتنا، وسبب مهم آخر هو ضعف شبكة العلاقات الاجتماعية بين الناس، بحيث لا يؤدي هذا إلى التزاور بين مختلف العوائل إلا على سبيل المجاملة، وبشكل يفتقر إلى البساطة، والتلقائية، وهذا لا شك قلل من فرص التعرف على من هن في سن الزواج، وربما قال قائل إن عدم وجود الاختلاط سبب لتأخر الزواج، فأقول إن هذا أمر ليس صحيحا، بدليل أن سن الزواج في معظم الدول التي تسمح بالاختلاط متأخر جدا وبشكل لا يحتاج إلى دليل. قيمة العمل والدراسة وتؤكد د. المحارب أن حل مشكلة اجتماعية كبيرة كهذه، يتطلب أن ننظر إلى الأمور بعيدا عن العاطفة وبعقلانية، وأن نحاول أن نعيد النظر في قيمة العمل والدراسة بالنسبة للبنات، وألا نجعلها غاية في حد ذاتها، وأن نعلي من قيمة الزواج في أذهان الشباب والفتيات، وأن تلغى كثير من المظاهر الاجتماعية التي تثقل كاهل الشاب وعائلته، انطلاقا من قوله صلى الله عليه وسلم: (أكثرهن بركة أيسرهن مؤونة)، ورجاء إلى المسؤولين عن التعليم أن يعيدوا النظر في عدد سنوات الدراسة بالنسبة للبنات، وألا تكون مثقلة بمواد لا تفيدها في حياتها العملية، فهذا خير لها ولمجتمعها، وتوفير لموارد الدولة، وتوجيه لنصف المجتمع للمهمة الأساسية التي لا يختلف عليها عاقلان. هذا بالنسبة للفتاة، أما الشاب فإن الأسباب التي تجعله يعزف عن الزواج متنوعة بطريقة أخرى، ويمكن أن نجملها فيما يلي: قلة الفرص الوظيفية الحكومية، وقلة دخل الوظائف التابعة للقطاع الخاص، مع ميل الشباب للوظائف وركونهم للعمل الروتيني البعيد عن المجازفة كالتجارة مثلا، مع أن فيها تسعة أعشار الربع، وكذلك ميل الآباء إلى احتواء أبنائهم والنفقة عليه باستمرار بحيث أصبح الشاب مكفيا كفاية كبيت العنكبوت، لا تكفيه لإيجاد أسرة، ولا هي تضعه تحت لهيب الحاجة ليصارع الحياة، ويوجد لنفسه عملا يكافح من أجله، والمتأمل لواقع العمل في السعودة يجد العمالة الوافدة تحظى بأكبر نسبة عمل في القطاع الخاص، أيضا ضعف الهمة لدى كثير من الشباب وعدم وجود تشجيع الأهل على الزواج، وتغير فكر الشباب تجاه الزواج فبرغم رغبتهم فيه إلا أنهم يرونه إثقالا وتقييدا ومسؤولية، وكذلك ميل الشباب إلى اللهو واللعب وعدم الجدية مما يؤدي إلى عدم قبول الفتيات به كزوج، وأيضا تقصير كثير من الشباب في دينهم، ففي دراسة أجريت في ثانوية شباب تبين أن نسبة 50% لا يصلون أبدا، ويضاف أيضا انتشار المخدرات بصورة مخيفة خاصة في سن الشباب مما يجعل الفتاة تتخوف من الإقدام على الاقتران برجل مجهول الحال، وانتشار القنوات الفضائية التي كان لها دور بارز في نشوء كثير من العلاقات غير المشروعة بين الجنسين، وايضا كثرة الأعباء التي تتطلبها الأسرة والفتاة وقلة التوعية بخطر الاستجابة لهذه المعوقات مما يجعل الزواج شيئا صعب المنال للشاب في سن الرغبة في العفاف. وفي ضوء ذلك فإن هذه القضية تحتاج إلى تكاتف الجهات الرسمية والخيرية للحد من ظاهرة تأخر الزواج سواء كان عزوفاً من الشاب أو الفتاة. الثلاث عقبات أما الشيخ عبدالعزيز بن محمد اللحيدان مأذون الأنكحة بالرياض فيبدأ بقول الله جل وعلا في محكم التنزيل: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، فالزواج في الإسلام حرث للنسل وسكن للنفس ومتاع للحياة، وطمأننية للقلب وإحصان للجوارح، كما أنه نعمة وراحة وسنة وستر وصيانة وسبب لحصول الذرية الصالحة، ولهذه المعاني المحببة للنفس البشرية ولما ركبه الله تعالى في الإنسان من غرائز جنسية فلابد للرجل من زوجة يسكن إليها، ولابد للمرأة من زوج تسكن إليه، وإن تسمية الله تعالى لكل من الرجل والمرأة زوجا في أكثر من آية لدليل على أن كلا منهما شطر لا يتم وجوده ولا تكتمل حياته إلا بصاحبه. كما أنه لابد لنا أن نهتم بدراسة العقبات التي تحول دون النكاح أو عزوف الشباب عنه لنتلافى النتائج السيئة التي تترتب على فقده، والمتأمل يجد أن هذه العقبات ثلاث: إحداها: عزوف كثير من الشباب ذكورا وإناثا عن الزواج بحجة أن الزواج يحول بينهم وبين دراستهم، وهذه حجة داحضة فإن النكاح لا يمنع من المضي في الدراسة والنجاح فيها والتحصيل، بل ربما يكون عونا على ذلك فإن الزوج الصالح إذا وفق بزوجة صالحة وسادت بينهما روح المودة صار كل واحد منهما عونا للآخر على دراسته، فعلى الشباب الذين اغتروا بهذه الحجة أن يعيدوا النظر مرة أخرى، وليسألوا زملاء لهم تزوجوا فرأوا الخير والطمأنينة من وراء الزواج، وبهذا تتذلل هذه العقبة، و ماذا ينفع الفتاة إذا أكملت دراسة ليست بحاجة إليها وفاتتها سعادة النكاح وعقمت من الأولاد. والعقبة الثانية: التي تحول دون الزواج ومصالحه العظيمة احتكار بعض الأولياء الظلمة لبناتهم ومن لهم ولاية تزويجهن، وأولئك الأولياء الذين لا يخافون الله ولا يرعون أمانتهم ولا يرحمون من تحت أيديهم، أولئك الذين اتخذوا من ولايتهم على تلك الفتاة الضعيفة موردا للكسب المحرم وأكل المال بالباطل تجد الخاطب الكفء في دينه وخلقه يخطب منهم فيفكرون ويقدرون، ثم يقولون: هذا ليس بتاجر، ويخطب الآخر ويقولون: هذا مرتبه ليس بكثير، ويخطب الآخر ويقولون: هذا لا يدفع لنا إلا القليل، فتذهب نضارة البنت في سبيل هذا التردد، كأنه يضع موليته للمزايدة، ولو ترك لها الخيار لقبلت الخاطب الكفء على ما تيسير، ولا شك إن رد الخاطب الكفء، في دينه وخلقه بمثل هذه الأعذار الواهية إنما هو معصية لله ولرسوله، وخيانة للأمانة وإضاعة لعمر البنت التي تحت ولايته وسوف يحاسبون على ذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ولقد أوجد أهل العلم تذليلا لهذه العقبة حيث قالوا: إن الولي إذا امتنع من تزويج موليته كفؤا ترضاه فإن ولايته تزول إلى من بعده فمثلا لو امتنع أبو البنت من تزويجها كفؤا في دينه وخلقه وقد رضيته ورغبت فيه فإنه يزوجها أولى الناس بها بعده فيزوجها أولى الناس بها ممن يصلح للولاية من إخوانها أو أعمامها أو بنيهم، لكن لو كان الخاطب غير كفء في دينه، أو عفته، فرضيته المرأة وأبى وليها، فله الحق في ذلك ولا إثم عليه، لأن إباءه لمصلحتها ومن مقتضى أمانته. والعقبة الثالثة: التي تحول دون الزواج ومصالحه العظيمة، هي غلاء المهور ونفقات الزواج وتزايدها حتى صار الزواج من الأمور المستحيلة أو الشاقة جدا لدى كثير من الراغبين فيه فلا يستطيع عليه إلا بديون تشغل كاهله وتشغل ذمته وتأسر عزته لدائنه، فالمغالاة في المهور والزيادة فيها من أكبر العوائق عن النكاح، وهو خلاف السنة فإن السنة تخفيف المهر وتسهيله وهو من أسباب بركة النكاح والوئام بين الزوجين، قال صلى الله عليه وسلم: (إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة). الإسراف البالغ ويوجه الشيخ الحمدان كلمة لأولياء أمور الفتيات فيقول: اجعلوا غرضكم أن تعيش المرأة عند رجل صالح ذي دين وخلق تحيا معه حياة سعيدة في ظل الدين والأخلاق الفاضلة وإنه من المؤسف ما يحدث في هذه الأيام من الإسراف البالغ في الولائم وقصور الأفراح بالمبالغ الطائلة التي لا فائدة من ورائها إلا ليقال إن فلانا أقام زواج ابنته أو أخته في الفندق الفلاني أو في القصر الفلاني مباهاة وافتخارا مع ما يقع في الحفلات غالبا من الأمور المحرمة المنكرة، فمثل هذا الإسراف وقوع فيما نهى الله تعالى عنه وتعرض لكراهية الله تعالى للعبد، فإن الله تعالى يقول: {وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، وإن هذا الإسراف عدول عن الطريق الوسط الذي هو طريق عباد الرحمن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان ذلك قواما. فاتقوا الله أيها الناس واتقوا الله أيها الأولياء وزوجوا من ترضون دينه وخلفه ولا تمنعوا الفتيات فإن في ذلك تعطيلا للرجال والنساء وتفويتا لمصالح النكاح وانتشارا للمفاسد، إذا لم يتزوج أبناؤنا ببناتنا فبمن يتزوجون أو إذا لم نزوج بناتنا بأبنائنا فبمن نزوجهم، هل ترضى أن يتزوج أبناؤنا بنساء أجنبيات بعيدات عن عاداتنا وأخلاقنا، وأن تبقى بناتنا بدون أزواج يحصنون فروجهم وينجبن منهم الأولاد، الذين بهم قرة أعينهن، لذا علينا أن نتعاون في تسهيل الأمر أمامهم فإن الخير كل الخير في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ظاهرة العزوف تقول د. ليلى بنت سعيد الساير عضوة هيئة التدريس بكلية أصول الدين بالرياض إن في الزواج سلامة للمجتمع من الانحلال الخلقي والفساد الاجتماعي إذ أنه يحمي أفراد المجتمع من الوقوع في المحرمات كالزنا واللواط ونحوهما، قال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء). رواه البخاري. إلا أنه وللأسف مع وجود هذه الفوائد العظيمة للزواج انتشر في السنوات الأخيرة ظاهرة العزوف عنه، لعدة أسباب، منها: الجهل بحكم وفوائد الزواج، ثم غلاء المهور وهو الأمر الذي يجعل الكثير من الشباب يعزف عن الزواج وليت الآباء والأمهات والفتيات يتأملن قول عائشة رضي الله عنها (خير النساء بركة أيسرهن مؤونة) وقصة فاطمة بنت عبدالملك وهي بنت خليفة وأخت أربعة خلفاء تزوجت أزهد رجل في وقته وهو عمر بن عبدالعزيز، حتى أن قرطيها الذي يسمى بقرطي مارية الذي تغنى فيه الشعراء لحسنه وثقله وجماله قد تبرعت بها لبيت مال المسلمين وكانت تعيش مترفة منعمة ثم رضيت بحياة هذا الزاهد بل إنه لما توفي وجاءها أمين بيت المال ليرد عليه مجوهراتها قالت: (ما كنت لأعصيه حياً فأعصيه ميتاً)، يضاف لهذه الأسباب التقليد الأعمى للغرب في تجنب الزواج والاكتفاء بالحرام عن الحلال وليت الشباب يتأملون في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (شراركم عزبكم)، كذلك اعتقاد بعض الناس أن الرهبانية ممدوحة في الإسلام رغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر على ثلاثة الرهط الذين تقالوا عبادتهم، حيث، قال: (أما أنا فأصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)، لذا على المجتمع بأسره أن يهب لمقاومة هذه الظاهرة، وعليه مسؤولية عظيمة تجاه الحد من هذه الظاهرة، ويمكن ذلك بعدة أمور هي: نشر فوائد وحكم الزواج بجميع الوسائل المتاحة سواء بالكتابة أو عبر أجهزة الاتصال والتشديد على من كان يستطيع الزواج ثم يعزف عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان موسرا فلم ينكح فليس مني) رواه الطبراني بسند جيد. تذكير الناس بالأجر المترتب على امتثال أمر الله سبحانه وتعالى، والاقتداء بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم منها حديث: (إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهي له صدقة) رواه مسلم. السعادة النفسية المترتبة على الزواج كما قرر ذلك علماء النفس لما فيه من السكن الروحي والاطمئنان والاستقرار والحصول على الذرية. مساعدة الشباب على الزواج وهذا ولله الحمد ظاهر في بلادنا من خلال تبني كثير من الجمعيات الخيرية والمؤسسات الحكومية هذا المشروع، ونوجه نداء إلى أولياء الأمور والفتيات بأن يترفقوا بالشباب وذلك بتخفيض المهور. التحول الخطير أما الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز الدريس المرشد بجهاز الإرشاد والتوجيه بالحرس الوطني فيقول: بداية لابد من الاعتراف بأننا نعيش فترة تحول خطيرة في الأفكار والعادات والسلوكيات وذلك بسبب الانفتاح على ثقافات الآخرين عبر الوسائل التقنية الحديثة، وهذا التحول ليس بالضرورة أن يكون اختياريا بل هو في كثير من جوانبه مفروض فرضا بسبب الهجمة المقصودة على مجتمعنا خصوصا والسلبية التي يواجه بها أكثر الناس هذه الهجمات، ولذلك بدأت تظهر على السطح عادات وسلوكيات وأفكار لم تكن تجد لها موئلا في مجتمعنا من قبل. وللأسف أصبح هناك من يبرر لها وينافح عنها ويستهجن من يقف ضدها. وهذه مرحلة بالغة الخطورة إذ لابد من حشد كافة الإمكانات والطاقات للأخذ بحُجُر المجتمع عن أن ينزلق فيما انزلقت فيه غيره من المجتمعات فأصبحت مجتمعات ممسوخة. وقضية الزواج مثلها مثل غيرها تمر بهذه المرحلة الحرجة سواء كان ذلك في النظرة إليه بشكل عام أو خطوات تحقيقه وتحمل مسؤولياته بل وحتى في حالة الرغبة في إنهائه. ولا شك أن تعطيل أو تأخير سنة الزواج هو أحد إفرازات الانفتاح على ثقافات الآخرين التي تعتبر الزواج تقليدا اجتماعيا من الضروري أن تنتهي به العلاقة التي قد بدأت أصلا من قبل، إذ إن العلاقة العاطفية والجسدية في مجتمعات الغرب تتم خارج الارتباط الشرعي، ثم بعد سنين طوال يتم الاتفاق على الزواج وقد لا يتم، فعرّوا بذلك العلاقة الشرعية من هدفها الأساس وهو إيجاد الاستقرار والسكن النفسي والعاطفي والجسدي وأصبح جانبا تكميليا قد لا يحرصون عليه بسبب ثقل المسؤولية بعد عقده. مجابهة الفيروسات ويضيف الشيخ الدريس: ومن الطبيعي أن تنتقل إلينا فيروسات هذا المرض عبر وسائل التقنية، ولا سيما إلى من لا يملكون رؤية واضحة في هذه القضية ولذلك بدأت تظهر بالفعل بعض الآراء الخطيرة لتعطيل الزواج أو تأخيره، وإذا استعرضنا هذه الأسباب - أيا كانت - بنظرة فاحصة وجدنا أنها أسباب وهمية يتملص بها الرجل أو المرأة من مسؤولية الالتزام، وإلا فيمكن تحقيقها جميعا بالزواج؛ سواء كان السبب التعليم أو العمل أو غير ذلك بل قد يكون الزواج - كما هو واقع مشاهد - أحد أسباب خلق الجو المناسب للنجاح والإبداع، لكن كما أشرت من قبل أصل القضية وجود خلل في مفهوم الزواج. والذي يتأمل في طريقة عرض الإسلام لموضوع الزواج يستشعر فعلا عظمة هذا الدين الذي سما بالإنسان حتى في رغباته فصور علاقة الزواج كما يلي: - إنه حاجة إنسانية لا يمكن أن يستغني عنها ذكر أو أنثى، إلا في حالات استثنائية ولوجود خلل في ذات الشخص. - عدم حصرها في العلاقة الجسدية بل تسمو عن ذلك إلى تهيئة الاستقرار النفسي والعاطفي الذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله: {لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}. - إنه أحد آيات الله الدالة على قدرته ووحدانيته وإنعامه على عباده. - إنه هو سبب بقاء الجنس البشري بشكل عام. - إنه ميثاق غليظ دائم أحكامه تتجاوز هذه الحياة إلى ما بعد الموت. ولم تستثن الشريعة أحدا من هذا المفهوم حتى أنبياء الله ورسله الذين هم خيرة الخلق وقدوتهم ليدل ذلك على أن من هو دونهم أولى بالتمسك بهذه السنة. وواجب الجميع نشر هذا المفهوم السامي للعلاقة الزوجية لكي لا تطغى عليه المفاهيم الوافدة بحيث تصبح قضية مسلمة لا يمكن بحال من الأحوال أن تتزعزع أمام الهجمات الشرسة، ويمكن تحقيق ذلك عبر مجموعة من أمور، هي: مواجهة تلك الهجمات بقوة بحيث تطرح للنقاش بمنطق وعقلانية معززة بنصوص الشرع، مع إظهار الجانب المشرف من الزواج فهو وإن كان كثير الأعباء والمسؤوليات ولكنه أيضا عالم مليء بالعواطف والحب والمشاعر الفياضة المتأججة، والدعوة إلى إشاعة المفهوم الصحيح للتيسير، إذ ليس هو فقط في المهر ونفقات الزواج بل حتى في خطواته وطبيعة العلاقة بين الزوج والزوجة، يجب أن نتخلص من كل أنواع التعقيدات التي (فرضتها) عادات وتقاليد بالية لا سند لها من منطق أو شرع لتصبح علاقة الزواج علاقة منسابة كانسياب النسمة الهادئة في وقت السحر، وإبعاد كل أنواع التدخلات (الفضولية) في حياة الزوجين سواء كانت من الوالدين أو الأقارب أو المجتمع القريب أو البعيد ليتشارك الزوجان في بناء حياتهما كما يريدان هما لا كما يريد لهما الآخرون، والعمل على إيجاد أنظمة واضحة تنظم الزواج وتمنع التجاوزات التي تشوه صورته، فلئن كانت القوانين تسن لقضايا قد لا تكون ذات أهمية بالغة فمن الأولى أن يشمل ذلك هذه القضية التي هي أساس بناء المجتمع.