هاهي لوعة الغياب تضربني بسوطها بعد فقد ثلة هم من اعتبرهم زوايا القلب فبعد وفاة صديقي الاستاذ عبدالرحمن الفوزان (ابو أسامة) توفي جدي عثمان ثم توفي حبيبي وصديقي/ محمد النغيمشي (أبو مالك) ثم بلغ الحزن مداه عندما توفي صديقي وحبيبي وخالي الاستاذ/ أبو عبدالله موسى بن عبدالله بن عبدالعزيز العناز رجل المكارم، ورجل الخير، ورجل العطاء بكل ثنايا ما تحمله هذه الكلمة يوم الجمعة 1/2/1421ه بسبب مضاعفات مرض التليف الكبدي وبهذا الخبر ادركت ان الفرح والسعادة لحظات نحصل عليها اقتناصا فتعطينا شعوراً قوياً وممتداً اما الحزن والتعب والأسى فلها الاوقات الأطول. وبدأت استرجع لحظات الذاكرة الجميلة التي جمعتني مع ابي عبدالله وكيف كانت ايامي معه. والحق انني لم أشأ ان اكتب حرفا ولا كلمة إنما لابد من تسجيل موقف للذكرى ووفاء بالجميل وسبب ارادتي عدم الكتابة ان ابا عبدالله رحمه الله هو في نفسي اكبر من الحروف والكلمات. فكيف لي أن أختصر ما احسه تجاهه من حب وتقدير وإجلال، فجرحي يوم وفاته جرح نازف، ووجع ممتد، وكبد جرى، تضخ الانين, وكيف لي بتصوير مشاعر نفسي التي ليست مرضا عضويا يسهل وصفه ويسهل تشخيصه؟!! لكن معاني النفوس متى اقترب منها الكتاب تباعد فهمهم الحقيقي لها لكني سأحاول الوصف لا الاقتراب!! نشأت وصوت أبي عبدالله,, ذلك الصوت الجهوري، المليء ثقة، المعبر عن نبض صاحبه، يجلجل متحدثا ومتكلما بلغة لا تشبهها الا لغة الكتاب. وذلك لان أبا عبدالله اخذ على نفسه عهداً الا يتكلم الا باللغة العربية كيف لا؟! وهو استاذها القدير، وحافظ أشعارها، وما زلت أذكر، وانا صغير وصيته لي بحفظ الاشعار العربية وقراءة ما كتبه في ذلك الزمن الغابر الكثير من الكتاب كالعقاد والرافعي والشعراء كشوقي وحافظ واسماء كثيرة. وأذكر في تلك الفترة ان المجتمع لم تتبلور في ذهنه اهمية القراءة لكن ابا عبدالله يأنس كثيرا بالكتاب فهو صديقه وانيسه في غالب احواله,وافتح صفحة الذاكرة وأتذكر فلسفته في التعليم وكان التعليم يأخذ حيزا من ذهنه . فمما أتذكره، كيف كان تعامله مع الطالب والتلميذ ؟! وهي فلسفة لم تأت من فراغ,فالمعلم الناجح هو الذي لا يجمد على تصور معين عن الكون والحياة والتعليم. وكان يقول: أنا لا يعنيني كثيرا اجاب الطالب على السؤال أو لم يجب إنما القضية لدي هي غرس مبادىء التفكير والوصول الى نتائج، باعطائه المقدمات. وهو مقتنع رحمه الله من مسألة غرس حب الاكتشاف والتجربة لدى الطالب ولا يأتي ذلك الا عن طريق القراءة. وبعد وفاته رحمه الله سألت الوالدة حفظها الله عن خالي سؤال المستفسر، عن ماذا يعني لها اخوها (موسى)؟! فقالت: ان موسى وهو اخي كان بمثابة الاب لنا جميعا، فظروف الحياة في تلك الفترة، ووفاة ابي، جعلت اخي يتحمل عبء البيت والمزرعة جميعا. وكان مصدر رزقه يجعله له ولاخوانه، وكان ينتشلنا من المواقف والاخطار، كما ينتشل الاسد أشباله. وكان طويل التفكير في مستقبل أخوانه وأخواته، ثم ذرفت دمعة حارة على خدها، وقالت: لولا خالك موسى ولم تكمل,. فاحترمت دموعها وكففت عن السؤال ثم لمح في ذهني ذلك المشهد المؤثر في الجنازة حيث رأيت كيف كان يتسابق الناس حتى كبار السن على المشاركة في الجنازة ويصرون على ذلك؟! ولم يكن الحزين والمتأثر اولاده واخوته فقط! فلقد رأيت اناسا ليسوا من الوسط العائلي للأسرة يمطرون قبره بالدموع ويبللونه بالحزن، فما المعنى الخفي لذلك؟! لم أجهد ذهني كثيرا للوصول الى هذا المعنى، فعلمت ان السر في ذلك ان ابا عبدالله يتميز بصفة قد تكون نادرة وهي مصطلح يطلق عليه باللغة الدارجة (الفزعة) فأبو عبدالله لم يكن يتأخر لحظة عمن أتى يطلب صغيرا او كبيراً من الحوائج وهي لعمري لا يستطيعها الا من صدره بحر مكارم، وفيض عطاء، وهذا الكرم لا يطال الكبير دون الصغير، او الفقير دون الغني، فهذا المبدأ لا يخضع لمعايير لديه. ومن رأى استقباله للضيف، ورأى ذلك المحيا الطلق والسمح، ورأى تلك الابتسامة المشرقة، بكل امل، رغم الالم!! وما ادراك ما الالم؟؟! فما قصة ابي عبدالله مع الالم؟! حصل لابي عبدالله العديد من التجارب مع المرض، وبعون الله تغلب عليها، لكن الطبيعة الانسانية مهما بلغت من القوة والنشاط، فهي الى زوال، والى نهاية، لا محالة، طال الزمان أو قصر، وفي هذا أعظم العبر؟؟ أصيب أبو عبدالله قبل ما يقرب من اربع سنوات بالتليف الكبدي، واظهر ابو عبدالله تجلدا وصبرا لم اعرفه من احد قبله فالابتسامة لم تتغير والاهتمامات الثقافية لم تتغير، سوى انه كان يحرص على قراءة الكتب التي تخص حالته. وكان يقول لي دائما: المؤمن بالله لا ينبغي له ان يضعف امام احد من الناس فالناس امام الضعيف اما شامت وإما مشفق، وهما حالتان لا يطيقهما الشخص السوي، وهي كلمة مجرب، وليست كلمة قارىء. إن فقدي لأبي عبدالله فقد مرٌّ لاذع، ففي ايامه الاخيرة كانت جلساتنا وحواراتنا كثيرة، ليس لها حدود وخصوصا بعد تقاعده المبكر. وكان كل شخص منا يختزل للآخر كتابا قرأه، أو برنامجا شاهده، أو محاضرة حضرها. في يوم فقده لن تحزن عليه امه الراضية بقضاء الله فقط أو زوجته الصابرة على عناء الحياة، ولا اولاده البررة، ولا اخوته واخواته الاخيار, ان الحزين هنا هم جناح عريض من الناس عاصره صديقا، وحبيبا واستاذا وتلميذا، ومربيا وناصحا، ومحتاجا فقيراً. رحمك الله يا أبا عبدالله فما زلت تبحث عن الامل والتفاؤل من خلال ابتسامتك وابتسامة الآخرين. طيب الله ثراك، يا صاحب الجبين الاسمر، وجمعنا واياك في مستقر رحمته، وتحت ظل عرشه,!!