في ليالي رمضان المباركة تتدفق الجموع على بيت الله الحرام، يتلهفون شوقاً لسماع القرآن الكريم غضاً طرياً بصوته الذي كان يصدح مترنماً بكتاب الله، فقد آتاه الله حسن التلاوة وجمال الصوت وقوة الحفظ والذين يعرفونه قبل أن يداهمه المرض يدركون الدور الذي قام به في استقطاب الناس لسماع التلاوة، حتى كنا نسمع الكثير من الناس صغاراً وكباراً يقلدونه في طريقته المتميزة بالترنم بالقرآن الكريم فقد كان - رحمه الله - مدرسة لجيل من الحفاظ. تلك الانطلاقة نابعة من معرفته منهج الصحابة - رضوان الله - عليهم في التغني بالقرآن ومن بعدهم إلى يوم القيامة، ومنهم فقيدنا - رحمه الله - لأن التوجيه النبوي الكريم يحض على ذلك في عدة أحاديث منها قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس منا مَن لم يتغنَّ بالقرآن)، (وزيِّنوا القرآن بأصواتكم)، (وما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن). فهو بصوته العذب في تلاوة القرآن الكريم يذكرنا بقصة ذلك الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - كان يرتل القرآن وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستمع إليه دون أن يدري بمكان الرسول، فلما أخبره الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: لو كنت أعلم أنك تستمع إلي لحبرته لك تحبيراً، يعني وأتقنت أكثر من ذلك وحسنته. حلاوة الصوت وقوة الحفظ في تلاوة القرآن الكريم عنصران مهمان لجذب الخشوع، خاصة إذا كانت الجموع غفيرة مثل صلاة التراويح والقيام في شهر رمضان المبارك، فإن الناس لا يشعرون بالوقت إذا شدهم الإمام بتلاوته العذبة، وهكذا كان الشيخ علي عبد الله جابر - رحمه الله - فهو من القراء المكافحين الذين أعطوا للقرآن حقه بالدراسة والتلقين والتجويد حتى مهروا فيه وكانوا قدوة للآخرين لسلوك هذا الدرب المضيء والطريق المبارك في تعلم القرآن الكريم وتعليمه. ولأن الشيء بالشيء يذكر فإن للملك خالد بن عبد العزيز - رحمه الله - يدا بيضاء في تقديم هذا الشيخ للناس، فلم يستأثر به لنفسه بل أكرم به المصلين حينما كلفه بالإمامة في شهر رمضان المبارك بالمسجد الحرام عام 1401ه، وذلك في نظري مكرمة ملكية منه - رحمه الله - للمسلمين أن أهداهم صوتاً صداحاً عذباً يقربهم لكتاب ربهم ويعينهم على الخشوع والتأمل في الآيات والذكر الحكيم. أما عن أخلاقه وأدبه وتواضعه فحدث ولا حرج فقد كان الشيخ متواضعاً وقوراً حسن الأخلاق، لم تؤثر فيه كلمات المديح والإطراء ولا تسابق الناس للصلاة خلفه حتى بعد أن ترك الإمامة في المسجد الحرام لظروفه الصحية، وكان محباً للعلم ضالعاً فيه وحرص على الترقي في درجاته بالكد والمثابرة حتى نال منه درجات مرموقة وعلماً غزيراً، ومن السنة النبوية الشريفة أن نذكر محاسن موتانا، فكيف إذا كانوا من علمائنا وقراءنا ومشايخنا فهي خسارة كبيرة لأن لهم الفضل بعد الله - عز وجل - في خدمة دين الله وكتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكما كان وقع تلاوته في القلوب مؤثراً لدرجة كبيرة، كذلك كان خبر موته نسأل الله - عز وجل - أن يعوّض المسلمين خيراً وأن يغدق رحمته ومغفرته على الشيخ علي عبد الله جابر ويجزيه خير الجزاء، على ما قدمه للقرآن الكريم من عناية ومدارسة وإتقان وللمسلمين من منفعة وتعليم، ويسكنه في عليين مع السفرة الكرام البررة تحقيقاً لحديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة) ولا نقول في هذا الحادث الجلل إلا ما علمنا ربنا {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.