قال الله تعالى {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}. أيها المسلمون: إن الله سبحانه وتعالى قد يبتلي العباد ويمتحنهم ليعلموا فقرهم إليه وحاجتهم إليه, وأنه لا غنى لهم عنه, رغم ما تقدموا فيه من العلم, ورغم ما تقدموا فيه من الطب, ورغم ما عندهم من المال, إلا أنه يبقى حائلا دون كشف الكربات والاضطرار, فلا يكشف الضر إلا الله, ولا يدفع البلاء إلا الله, ولا يشفي من المرض إلا الله. {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}. والعالم اليوم يمر بأزمة ومحنة في انتشار الأوبئة والأمراض والطواعين الفتاكة التي تفتك بالبشر ولم تكن على سالف عهدهم, بل وتفتك بالحيوانات كذلك التي يعتمد عليها البشر في طعامه وشرابه, فقد سمعنا بوباء جنون البقر الذي أحار العلماء في معالجته وأدى إلى إتلاف كثير من الحيوانات المصابة به, وأخيرا ما انتشر في بعض الدول مرض إنفلونزا الطيور الذي يصيب الطير فيجهز عليه, وقد ينتقل إلى البشر فيؤدي إلى وفاته وموته, ولا شك أن الطير، وبخاصة الدجاج منه، مما يعتمد عليه البشر في طعامهم, وقد امتن الله على أهل الجنة بأكلهم من الطير فقال: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ}. وقد بين عليه الصلاة والسلام فضل الديك وأنه يؤذن لما يرى الملائكة, بل ورغب في سؤال الله من فضله عند سماع صياح الديك, فقد روى أحمد في مسنده بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم أصوات الديكة فسلوا الله من فضله, فإنها رأت ملكا, وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان, فإنها رأت شيطانا). وقد أمر الله بالتأمل في الطير فقال: {أَلَمْ يَرَوْا إلى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. وقد كان طير الهدهد من جنود سليمان عليه الصلاة والسلام الذي علم منطق الطير, وهو الذي غار على عقيدة التوحيد ونقل له شرك سبأ وما كانت عليه ملكتهم قبل إسلامها مع سليمان عليه الصلاة والسلام. فسبحان الله كيف انقلب ذلك الطير إلى شيء مخيف في مرضه, وكيف انقلبت تلك النعمة إلى نقمة, وكيف أحرق ذلك الطير بسبب المرض الذي فيه بأعداد مهولة, وكيف منع الناس منه وحذروا منه بعد أن كان هو اللحم الصحي المفيد, لا شك أنه ابتلاء وامتحان من الله جل في علاه. وإني بمناسبة انتشار هذا المرض في بعض البلدان, وتخوف الدول والشعوب منه, أحب أن أبين منهج الإسلام في معالجة الوباء والمرض, فإن الناس مع ضعف عقائدهم وقلة علمهم بالشرع يتخبطون ويتعلقون بالأسباب المادية البحتة وينسون الأسباب الشرعية التي تحميهم من البلاء. والإسلام قد عالج انتشار الأوبئة والأمراض وذلك من خلال أمرين، الأمر الأول: هو ما قبل الوباء والمرض, والأمر الثاني: هو ما بعد وقوع الوباء وانتشار المرض. فقبل انتشار المرض والوباء لا بد على المسلم أن يعلم أن القضاء قد يكون خيرا وقد يكون شرا، ومن أركان الإيمان بالقدر خيره وشره, فالمرض من الله والشفاء من الله, والموت من الله والحياة من الله, فهذا من الثوابت التي لا ينازع عليه مسلم في اعتقاده, وأن الله سبحانه وتعالى إذا أنزل المرض فهو الذي أنزل الشفاء منه، علم ذلك من علمه وجهله من جهله. فقد روى مسلم في صحيحه، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لكل داء دواء, فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل). وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء). وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح، عن أسامة بن شريك قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: (نعم تداووا عباد الله، فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد, الهرم). وفي مستدرك الحاكم بسند صحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له دواء علمه من علمه, وجهله من جهله إلا السام وهو الموت). فعلاج كل الأوبئة والأمراض الفتاكة وغيرها هو عند الله، وقد يعلمه من يشاء من عباده ويخفيه عمن يشاء امتحانا منه وابتلاء حتى يرجع العباد إلى خالقهم ومولاهم ويسألونه ذلك الشفاء. الأمر الثاني من علاج الإسلام للوباء قبل انتشاره, هو أخذ الحيطة والحذر من الوباء والمرض وعدم التعرض له وعدم السفر إلى البلاد التي انتشر فيها الوباء, وأن ذلك لا ينافي الأخذ بالأسباب والتوكل على الله. ويؤيد ذلك قول المولى جل في علاه {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ}. وقوله {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}. وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه, وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارا منه). وقد كان الطاعون معروفا عند العرب قديما فقد قالوا في تعريفه: ورم رديء قتال، يخرج معه تلهب شديد مؤلم يتجاوز المقدار في ذلك, ويصير ما حوله في الأكثر أسود أو أخضر أو أكمد. وقال بعضهم: هو كل مرض يعم. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الطاعون قد يكون ابتلاء من الله تعالى وعذابا من عنده كما أرسله على بني إسرائيل. وقد روى البخاري في صحيحه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فقال: (كان عذابا يبعثه الله على من كان قبلكم فجعله الله رحمه للمؤمنين، ما من عبد يكون في بلد فيكون فيه فيمكث لا يخرج صابرا محتسبا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له أجر شهيد). وقد يكون أذية من الجن، فقد روى أحمد في مسنده بسند صحيح عن أبي هريرة الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فناء أمتي بالطعن والطاعون) فقيل: يا رسول الله هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: (وخز أعدائكم من الجن وفي كلٍّ شهادة). وقد بين عليه الصلاة والسلام أنه لا يجوز التعرض للمكان الذي ينتشر فيه الوباء والمرض. قال ابن القيم رحمه الله: وفي المنع من الدخول إلى الأرض التي وقع بها الطاعون عدة حكم، أحدها: تجنب الأسباب المؤذية والبعد عنها. الثاني: الأخذ بالعافية التي هي مادة المعاش والمعاد. الثالث: أن لا يستنشقوا الهواء الذي قد عفن وفسد فيمرضون, الرابع: أن لا يجاوروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك, فيحصل لهم بمجاورتهم من جنس أمراضهم. والخامس: حمية النفوس عن الطيرة والعدوى، فإنها تتأثر بهما. وقال عن حكمة النهي عن الخروج من بلد الوباء وذلك لمعنيين، الأول: هو حمل النفوس على الثقة بالله, والتوكل عليه, والصبر على أقضيته والرضا بها. والثاني: ما قاله أهل الطب: إنه يجب عند وقوع الطاعون السكون والدعة, وتسكين هيجان الاختلاط, ولا يمكن الخروج من أرض الوباء والسفر منها إلا بحركة شديدة وهي مضرة جدا. انتهى كلامه رحمه الله باختصار. ويمكن أن يعلل أيضا بأن منع الخروج من بلد الوباء والطاعون بعد الإصابة به لئلا يحصل انتشار المرض والوباء فيضر بالمسلمين انتقاله. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الاختلاط بأهل المرض المعدي فقال: (فر من المجذوم كما تفر من الأسد) رواه أحمد في مسنده بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقال: (لا يوردن ممرض على مصح). رواه أحمد وأبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقد امتنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أخبر أن الوباء والطاعون قد وقع بالشام واستشار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك, فأشار عليه بعضهم بالمضي قدما وأشار عليه البعض الآخر بعدم الدخول حفاظا على أنفس من معه من الصحابة, فقرر عدم الدخول, فاعترض عليه أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه بقوله: يا أمير المؤمنين أفرارا من قدر الله تعالى؟ فقال له: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم نفرّ من قدر الله تعالى إلى قدر الله. فقد بين له أن أخذ الحيطة والحذر من الوباء والمرض من قدر الله تعالى ولا ينافي التوكل عليه. فهذا ما يتعلق بمنهج الإسلام في كيفية التعامل مع الوباء قبل حصوله وذلك يكون بالإيقان بأن المرض من عند الله وأنه يكون ابتلاء من الله ومن قدر الله وأنه يجب أخذ الحيطة والحذر منه وعدم التعرض له. أما عن كيفية معالجة الوباء والمرض بعد الوقوع فيه فيكون بعدة أمور أيضا منها: أن يوقن المصاب أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه وأن يسلم بقضاء الله وقدره ويعلم أن القضاء والقدر منه خير ومنه شر, وقد يكون إصابته بالمرض رفعة لدرجاته وتكفيرا لسيئاته حتى يلقى الله وما به من الذنوب شيء وأن إصابته تلك إن أدت إلى وفاته كان سببا في استشهاده ولحوقه بالشهداء. ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاعون شهادة لكل مسلم. وعن عتبة بن عبد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي الشهداء والمتوفون بالطاعون، فيقول أصحاب الطاعون: نحن شهداء، فيقول: انظروا فإن كانت جراحهم كجراح الشهداء تسيل دما كريح المسك فهم شهداء، فيجدونهم كذلك) رواه الطبراني في معجمه بسند لا بأس به. وهذا من فضل الله تعالى ورحمته بالمصابين بالأوبئة. ومن الأمور التي عالج بها الإسلام بعد حصول المرض والوباء عدم نسبة المرض إلى الوباء وأنه هو السبب الحقيقي للعدوى. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن ذلك بقوله: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر). رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة رضي الله عنه. ولما سأله الأعرابي بقوله: يا رسول الله، فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فمن أعدى الأول؟) رواه أبو داود في سننه بسند صحيح. إذن فلا تصح نسبة المرض والعدوى إلى المرض وإنما إلى الله تعالى، وأنه لا بد من ضرورة الحيطة من المرض وخوف انتقاله كما ذكرنا من الآثار الدالة على ذلك وفعل الصحابة رضوان الله عليهم. وقد أحسنت بلادنا، حفظها الله من كل شر ومكروه، بأخذ الحيطة والحذر من هذا المرض الفتاك وأخذت بتوعية المواطنين بكيفية الحيطة من هذا الوباء، ونسأل المولى جل في علاه أن يحمينا ويحمي بلاد المسلمين وبلاد الحرمين من كل شر ومكروه إنه سميع قريب. أما بعد: فإن كل الدول والشعوب بمختلف إمكانياتها تقلق وتخاف من انتشار الأوبئة والأمراض وتتخذ كل السبل وتشتري كل الأدوية مهما غلا ثمنها وتجند كل الطاقات في ذلك. وهذا أمر طبيعي وواجب, ولكن أما تنبه الناس إلى مرض خطير وفتاك يفتك بالأمم والشعوب وضرره على الناس أشد ضررا من السموم على الأبدان ألا وهو داء الذنوب والمعاصي؟ وداء الربا والزنا والخمر والمسكرات, أرأيتم كيف تكاتفت الجهود والجهات الرسمية وغير الرسمية لمحاربة الأمراض حتى لا تقع, فهو إجراء وقائي, وإن من الوقاية من الذنوب والمعاصي هو الأمر بالمعروف والنهي من المنكر فهو صمام الأمان من هلاك الأمم قال تعالى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}. وقال عن أهل القرية {...فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}. وقال عليه الصلاة والسلام مبينا أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه صمام الأمان للأمة بقوله: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا). رواه البخاري في صحيحه عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما. فكما تكاتفت الجهود في القضاء على الوباء ينبغي أن تتكاتف الجهود في القضاء على المنكرات ونشد من أزر القائمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لا تغرق السفينة. (*) إمام وخطيب جامع صلاح الدين الأيوبي بالرياض